رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
تتبغدد علينه وإحنه من بغداد


المشاهدات 1327
تاريخ الإضافة 2025/12/29 - 9:33 PM
آخر تحديث 2026/01/01 - 12:52 AM

قد تمر على كلمة ما قرون من الزمان وهي منسية أو خاملة في المعجمات التي قد تصل إلى 80 ألف مادة لغوية كما في لسان العرب للعلامة ابن منظور، أو تزيد إلى 120 ألف كلمة كما في معجم تاج العروس للعلامة الزبيدي، أو تقل إلى 40 ألف مادة لغوية كما في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية في القاهرة.
لكن شيئاً ما قد يدفع هذه الكلمة المنسية الخاملة إلى الواجهة من بين عشرات الآلاف من الكلمات الأخرى، فينفض عنها ركام الأزمنة، ويشعل فتيل خروجها سراعاً إلى ألسنة الناس، النبيه منهم والغافل، والعالم منهم والجاهل، كأن ترتبط بحادثة تاريخية، أو تُنطَق من قبل شخصية شهيرة، أو تكون مفردة في قصيدة شاعر، أو متداولة في أغنية.
وقد تَعْبُر هذه الكلمة حدود البلاد إلى ما يجاورها من البلاد الأخرى، وجوازُ مرورها شهرتُها، بل من الوارد جداً أن يكتب لهذه الكلمة حياة جديدة عندما تدخل بقوة في حكايات الناس اليومية وأمثالهم الدارجة الشعبية التي تعكس مزاجهم العام، ومشاعرهم تجاه ما يمرون به من حوادث، وما يتعرضون له من تقلبات ومواقف.
الاستعمال اللغوي للبغددة
المعجمات العربية تطرقت إلى البغددة، وخلاصة ما انطوت عليه معانيها أنها تدور بين الإنتساب إلى بغداد، والتشبه بأهلها، والفخر والاستعلاء.
وفي الشعر العربي، وردت البغددة بمعنى (المظاهر الفارغة المتصنعة) تارة، و(الترف والتحضر والجمال) تارة أخرى.
ففي الأولى انتقد الشاعر تقديم المجتمع لتلك المظاهر على الفضائل والقيم كما في بيت من أبيات قصيدة (أبين ضلوعي جمرة تتوقد؟) من ديوان الشاعر العباسي ابن الرومي (221-283 هـ) الذي يقول في أحد أبياتها: 
يقولُ مقالي في نصيحِكِ من مشى           ويُقدِّمُهم في ذاكَ من يتبغدَدُ
وفي الثاني وصف الشاعر بهجة وجمال رافد الزاب -من روافد دجلة- المكتسب من جمال بغداد فيقول في بيت من قصيدة (أليلتنا إذ أرسلت وارداً وحفا) من ديوان الشاعر ابن هانئ الأندلسي (326-362 هـ):
تَبَغْددَ منْهُ الزّابُ حتى رأيْتُهُ           يهبّ نسيمُ الروض فيهِ فيُستَجفى
و(تبغدد منه الزاب): أي أنّ الزاب بدا وكأنه اكتسى من هيئة بغداد ورونقها، فصار متأنقًا متحضّراً مثلها وعلى جمالها.
ولم أشأ متابعة بقية الشعراء الذين ضَمَّنوا (البغددة) في قصائدهم حتى لا أبتعد كثيراً عن الموضوع أولاً، أو أُصْدَم بما انتهى إليه مصير حياتهم كما حدث مع ابن الرومي والاندلسي!.
فالمفارقة أن كلا الشاعرين قُتِل، ابن الرومي، مات مسموماً في عهد الخليفة المعتضد بأمر الوزير القاسم بن عبيد الله بسبب هجائه اللاذع المستمر، وابن هانئ الاندلسي، قتل غيلة (غدراً) بعد مرافقة المُعِز في فتح مصر، فعاد إلى إشبيلية ليأخذ أهله ويلحق بالمعز، لكنه قُتل في برقة (بليبيا) قبل أن يصل، ولم يُعرف قاتلُه، ولا السبب!.
الاستعمال الشعبي للبغددة
لم يخرج المعنى الشعبي للبغددة عن معناه اللغوي كثيراً باستثناء بعض التفاصيل التي تميز هذا البلد من ذاك، ففي لبنان تستعمل بمعانٍ منها: (الدلال والغنج) وهو ما يتيح للموصوفة بهما أن تأمر فقط، وما على الجميع إلا التنفيذ والإذعان، وقد وردت في كلمات اغنية للفنان اللبناني جوزيف عطية جاء فيها: 
 لايق عليكي البغددة        وطابور قصادك من الخدم
ويهدهدوكي هدهده          والله اللي دلّع ما ظلم
وذكر عطية حول معنى العنوان، وأصوله لأي لهجة وبلد تنتمي فقال: (البغددة كلمة مصريّة عاميّة، بنقول: انت تقعد كده وتتبغدد وتطلب وتتأمر وكل حاجة تعوزها تجيلك)، قلت: لاشك أن نسبة الكلمة الى المصرية خطأ، فهي عربية أولاً، وبغدادية ثانياً، وكلامه محمول على الاستعمال اللغوي الشعبي ليس إلا.
وفي سوريا  يقولون تعجباً: (حاجي تتبغدد علينا) لمن يعامل الآخرين بفوقية لا يستحقها، ناهرين إياه عن هذا الفعل المشين اجتماعياً.
وفي مصر يستعملونها للدلالة على معانٍ عدة، مثل: التعالي والغرور، والترف والفخر، والنفخة الفارغة المتصنعة، كما يستعملون (يالابس البغدادي) لوصف المتكبر بلباسه الثمين الشهير، أو التغزل به لأجل حاجة ما. يقول الكاتب المصري طه وادي في ص 32 من كتابه (الليالي)، وهو من مطبوعات مكتبة مصر عام 1992، أنه أنشد مع الأطفال (بنين وبنات) عندما كان صغيراً بعد الحرب العالمية الثانية، إنشودة (يا بناتِ الْحُور سيبوا القمر يدور)، حيث (كان القمر مخنوقاً فقد حدثت له حالة خسوف، وأهل القرية يعتقدون أنهم يجب أن يغنوا له حتى تذهب السحابة السوداء التي تخنقه، وتحجب نوره . ومن أبيات الإنشودة:
يا قمرنا يا هادی  ...  يا لا بس البُغدادي 
ومعنى البُغدادي -بضم الباء-  هنا الملابس الثمينة التي يتبغدد بها الانسان، أي يفخر بها ويزهو، وهم هنا إنما يتغزلون بالقمر لينير لهم المكان من جديد، ربما (مشان عيون البغددة)!.
البغددة وكريم العراقي
حدثني المرحوم كريم العراقي مما نًقِل إليه عن شهرة (تتبغدد علينه) التي كتب كلماتها، وغناها للناس كاظم الساهر في العام 2005، أنه وبعد فتح المجال للأسئلة خلال مؤتمر صحفي للأمين العام للجامعة العربية - آنذاك- عمرو موسى، وصل الدور لمراسل البغدادية الذي طرح سؤالاً وعاد ليطرح آخر، فما كان من عمرو موسى إلا أن يقول له: (يا بتاع البغدادية!، ما تتبغددش علينه بقه). 
كان المرحوم كريم متبسماً بشيء من الزهو وهو يروي الحادثة باعتباره وراء إعادة البغددة إلى الواجهة، فاشتهرت حتى بلغت أفواه المسؤولين الكبار، لقد استخرج كريم البغددة من آلاف الكلمات، وأماط عنها غبار القرون، وزخرفها كقلادة بيد صائغ ماهر، ومنحها جناحين كبيرين حلق بهما كاظم الساهر في فضاءات الوجدان الشعبي العربي.
بكل بساطة، أقول في خاتمة المقال، أن أول من يحق له الزهو والفخر بإعادة (البغددة) إلى الواجهة هو المرحوم كريم العراقي، ثم كاظم الساهر، وكان كريم يدرك ذلك، هو لم يخبرني صراحة عن سبب هذا الفخر، وإنما أخبرني لاحقاً عن رسالة تسلمها من الشاعر الكبير نزار قباني ذات يوم، فيها الكثير من السطور، لكن السطر الذي جذب انتباهي وأكد ظنوني من كلام نزار فيما يستحقه كريم من إشادة هو وصية نزار له بالقول:
يا كريم..  إبق مغروساً على شفتي كاظم.


تابعنا على
تصميم وتطوير