التحول الكبير في موقف الحكومة الفرنسية من حرب الإبادة والتطهير العرقي التي تقترفها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، والتي أزهقت أرواح أكثر من ستين ألفاً من الشهداء، يفرض قراءة متأنية وواقعية.هي نفسها الحكومة التي لم تخفِ دعمها الكامل واللا مشروط للجرائم نفسها التي تقترف في غزة من طرف الجهة نفسها التي كانت تحظى بدعم الحكومة الفرنسية، وهي الحكومة نفسها التي قدمت دعما لوجستيًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا للعدوان، وبالتالي حينما تفاجئ باريس الرأي العام الدولي بتغيير موقفها مما يجري، وتنتقل إلى الجبهة المعادية للعدوان، وتشهر سلاح الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ويقول وزير خارجيتها إن «غزة باتت مكانًا للموت»، وتهدد باتخاذ عقوبات ضد سلطات الكيان الإسرائيلي، بل الأكثر من ذلك أن تبادر بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي بمقر الأمم المتحدة لدعم فلسطين، وإقناع دول أخرى بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن كل هذه التفاصيل تدعو فعلاً إلى طرح ركام من الأسئلة تحاول أن تبحث في أسباب هذا التحول .من حيث الموضوع، فإن فرنسا التاريخية كانت دومًا تحرص على الإمساك بالعصى من وسطها فيما يتعلق بموقفها من القضية الفلسطينية. فمنذ عهد الرئيس التاريخي لفرنسا الجنرال ديغول إلى عهد الرئيس جاك شيراك، دعمت فرنسا بقوة حل الدولتين كما نصت على ذلك خطة التقسيم للأمم المتحدة لسنة 1947. وسبق للرئيس جيسكار ديستان أن اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ووقع على إعلان البندقية في سنة 1980 الذي دعا إلى إقامة الدولة الفلسطينية، وسار الرئيس ميتران على المنوال نفسه بأن أكد داخل الكنيست الإسرائيلي على ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية. وأعلن الرؤساء التاريخيون لفرنسا هذه المواقف الواضحة والشجاعة في الوقت نفسه الذي كانت فيه حكومات الكيان الإسرائيلي والإدارات الأمريكية المتعاقبة تعد منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية والقادة الفلسطينيين، بمَن فيه القائد ياسر عرفات، مجموعة من الإرهابيين .إلا أن هذه الأمور اتجهت نحو التغيير في العقدين الماضيين، وشرع الرؤساء المتعاقبون على قصر الإليزيه خلال هذه المدة في التخلي عما يمكن وصفه بالعقيدة التاريخية لفرنسا تجاه القضية الفلسطينية. وبدون أدنى مواربة مثّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلقة رئيسة في مسار التحول الفرنسي تجاه هذه القضية، إلى أن أخرج فرنسا من موقعها التاريخي وحولها إلى ما يشبه ملحقة للإدارة الأمريكية في مجمل القضايا الدولية، وبالخصوص القضية الفلسطينية .اليوم حينما تنتفض باريس وتبدي حماسًا قويًا في العودة إلى العقيدة الفرنسية التاريخية التي حددها بدقة كبيرة رؤساء فرنسا الكبار والعظماء، فإن التساؤل عن أسباب ذلك يبدو مشروعا.. هل يتعلق الأمر بقناعة فرنسية راسخة في أن حل النزاع يتوقف بصفة مطلقة ونهائية على حل الدولتين؟ هل يتعلق الأمر بيقظة ضمير فرنسا الحرية والعدالة والمساواة، وأن هذه الصحوة المتأخرة تحاول أن تعيد فرنسا إلى عقيدتها التاريخية؟ الحكومات الفرنسية المتعاقبة على سدة الحكم في فرنسا خلال العقدين الأخيرين لم ترَ حرجًا من اعتماد سياسة خارجية مفرطة في البراغماتية، تميل حيثما وجدت المصالح الفرنسية والغربية بصفة عامة، وسلكت سبلا ومناهج تضمن تحقيق ما قدرته مناسباً ولائقاً من المصالح .