
أمست آهات الأرض تستغيث من فتك الإنسان، وصار إنسان اليوم كثير الهذر، غارقًا في استعمال آلات لا حصر لها، تصدر أصواتًا لا تنتمي إلى ما يألفه سمعه، حتى غدا محاصرًا بضجيج يطارد أنفاسه من لحظة استيقاظه إلى لحظة نومه. قلما يعثر الإنسان اليوم على محطة استراحة يحتمي فيها بصمت تأملي يعيد إليه شيئًا من سلامه الداخلي. الأصوات المتدفقة، والكلمات الخرقاء، والضوضاء التي لا تنقطع، لا تسرق عمره وحده، وإنما تسلبه أثمن ما يملك، وهو سلامه الباطني، ذلك السلام الذي يشبه أشعة نور تشرق على القلب حين يعيش الإنسان حالة الصمت ويُسكت ما في داخله من ضجيج. في هذا الفقد تتآكل صلته بذاته، ويضعف حضوره في العالم، حين يغدو أسير إيقاع خارجي لا يتيح له الإصغاء لما يجري في أعماقه. الصمت هنا ليس هروبًا من الحياة، وإنما عودة إلى نبعها، واستعادة لميزان يختل كلما استبد الصوت بالمعنى. حين يستعاد الصمت يستعاد معه الهدوء الذي يرمم الداخل، وتتفتح مسافة للتأمل تعيد ترتيب الرؤية، ويولد سلام قادر على مداواة الارهاق الذي يخلقه الضجيج، ويمنح الإنسان قدرة على أن يعيش في العالم من غير أن يبتلعه صخبه.
واحدة من خطايا الأيديولوجيات المتفشية في بلادنا أنها تجهل التربية على الصمت والتأمل والتفكير والتساؤل، إذ تنشغل بتحريض المنخرطين فيها على التحدث في كل شيء وعن كل شيء بلغة مشبعة بالوثوقيات والجزميات النهائية، فتوقظ فيهم شهوة الكلام من غير تكوين علمي يؤهلهم لذلك، أو خبرة تتراكم فينضج بها وعيهم، أو معرفة تزن كلماتهم، أو ذوق وتهذيب في الحديث. يسبق الصوت الفكرة، ويعلو الهتاف على السؤال، وتغدو الكلمة أداة استعراض لا وسيلة كشف، فيتضخم الضجيج ويضمحل المعنى. الصمت الذي يقصى ليس فراغًا بل شرط إمكان الإصغاء إلى الذات والآخر والعالم، ومن دونه لا يتولد التأمل، ولا يكتمل التفكير، ولا يثمر السؤال الذي يحرر العقل من أسر الوثوقيات. لذلك فإن التربية على الصمت والتأمل والتساؤل هي الطريق إلى إنقاذ الكلمة من الابتذال، وإعادة الاعتبار للمعنى، وتحرير اللغة من أسر الأيديولوجيا، واستعادة الإنسان لذاته بوصفه كائنًا يسأل قبل أن يهتف بشعار، ويتأمل قبل أن يتكلم، ويصغي قبل أن يجيب.
التربية التي تهمل الصمت لا تصنع وعيًا، وإنما تكدّس آراء جاهزة، وتنتج ذواتًا مستعجلة لا تُصغي ولا تعرف كيف تفكر قبل أن تتكلم، فيغدو الكلام فعلًا غوغائيًا، وتتحول الأيديولوجيا إلى مصنع لإعادة إنتاج الضجيج. الصمت ليس هروبًا من الحياة بل شرط لتكوين عقل قادر على التمييز، وروح قادرة على التبصر، وإنسان يعرف متى يتكلم ومتى يصغي، ومتى يؤجل حكمه حتى ينضج المعنى في داخله. من دون هذه التربية على الصمت تفقد المجتمعات قدرتها على التفكير الهادئ، وعلى بناء وعي يحرر الإنسان من الانغمار في لجة القطيع، ويعيد إليه سيادته على عقله ومصيره، إذ يفتح الصمت منافذ القلب على ما يتوارى خلف الضجيج، ويتيح للفكر أن يتنفس خارج أسر الشعارات، ويمنح اللغة فرصة أن تستعيد معناها بوصفها توليدًا للمعنى وكشفًا لا استعراضًا.
المؤسسات التربوية والتعليمية، والثقافية والإعلامية، والاجتماعية والدينية، والحركات السياسية في بلادنا، تنهمك في بناء كياناتها بتكرار شعارات وكلمات مملة، وتقيّم مكاسبها وتختبر نجاحاتها بما تنظمه من مهرجانات تعبوية واحتفالات وماراثونات، وبما تراكمه من فائض لفظي لعبارات جوفاء، من غير أن ترى فيما تقدمه منجزات حقيقية على الأرض لصالح المواطن والوطن، ومن غير أن تكثف جهودها لبناء الدولة وحمايتها من الأخطار. في هذا الواقع يتراجع العمل الهادئ لمصلحة الاستعراض، ويتقدم الصوت العالي على التخطيط العلمي الرصين، وتتحول اللغة إلى ستار يخفي الفراغ بدلًا من أن ينتج المعنى، وتغدو الكلمات أقنعة تزين العجز بدل أن تحرك الفعل، ويمسي الضجيج بديلًا عن التفكير، والاستعراض غايةً في ذاته لا وسيلةً لبناء وطن يليق بإنسانه. حين يغيب الصمت الذي يدرب العقل على التفكير العميق، وتتلاشى الأسئلة التي توقظ الوعي، ويتعطل التأمل الذي ينتج رؤية، تبقى البلاد أسيرة ضجيج يبتلع طاقة الإنسان ويستنزف قدرته على الفعل. من دون إعادة الاعتبار للصمت بوصفه شرطًا لتكوين الوعي، وللسؤال بوصفه مدخلًا للمعرفة، وللتأمل بوصفه طريقًا لانبثاق البصيرة، يتعذر على المجتمع أن ينهض ويعجز الإنسان عن بناء علاقة واعية مع ذاته ومع العالم من حوله. الصمت فعل يعيد ترتيب الذات، ويمنح العقل فسحة ليعيد النظر، ويمنح الروح قدرة على التقاط المعنى وسط الفوضى. حين يستعاد الصمت تستعاد معه القدرة على التفكير الهادئ، ويولد السؤال بوصفه بداية للمعرفة، ويتشكل وعي قادر على الفعل لا على التكرار، وعلى البناء لا على الاستهلاك، وعندئذ فقط يتحول الضجيج إلى لغة، والكلام إلى معنى، والعمل إلى أفق يفتح الطريق أمام وطن يبحث عن خلاصه.
لا تولد نهضة، ولا يترسخ مشروع، ولا تصان هوية وطن ما لم يتحرر الإنسان من وهم الكلام بوصفه فعلًا، ومن الانشغال باللغو عوض الصمت الذي يلد التفكير التساءلي والتأمل الذي تنبثق في فضائه الرؤية. تبدأ النهضة حين يتعلم الناس كيف يصغون لصوتهم الباطني قبل أن يتكلموا، وكيف يفكرون قبل أن يهتفوا، وكيف يزنون الكلمة بقدر ما يزنون الفعل. الكلمة التي لا تستند إلى وعي تتحول إلى ضجيج، والفعل الذي لا يسبقه تفكير ينقلب إلى عبث، وفي هذا الأفق يستعيد الوطن لغته العاقلة، لغة العمل الهادئ لا الصراخ، ولغة السؤال لا الشعارات، ويستعيد الإنسان سيادته على ذاته حين يكفّ عن الارتهان لانفعالات الجماعة، ويتحرر من سطوة الحشود، ويعود إلى بناء وعيه. عندئذ تغدو الهوية واقعًا حيًا يتجدد لا شعارًا يستهلك، ويصير الوطن مشروعًا حقوقيًا يضمن للمواطن حقوقه، ويتعلم المواطن مسؤولياته الوطنية، وكيف يكون أخلاقيًا وإنسانيًا مع الشركاء في الوطن، عندئذ يتأسس الوطن على بصيرة لا ساحة صخب تتنازعها الأصوات. ويصبح الصمت مدرسة للوعي، والسؤال بداية للمعرفة، والتأمل طريقًا لرؤية تنقذ الإنسان من الغرق في الضجيج، وتفتح أمامه أفقًا يليق بكرامته ووجوده.