
تُعد قصيدة «حرير» واحدة من النصوص الشعرية التي تجاوزت حدود اللحظة لتغدو وثيقة شعورية تختزن تجربة إنسانية ووطنية مركّبة. كتبها الشاعر والكاتب كاظم غيلان في زمن عراقي بالغ الحساسية، حيث كان السجن فضاءً مادياً، والحلم ملاذاً وحيداً للروح. في هذا النص، تتداخل ثنائيات كبرى: الحلم والواقع، الحب والوطن، الأنثى والقصيدة، والقصيدة بوصفها فعلاً ثورياً ناعماً يقاوم القهر دون ضجيج.
اختار الشاعر اللهجة الجنوبية لا باعتبارها وسيلة تعبير محلية، بل كهوية ثقافية ممتدة إلى الجذور السومرية، إلى ذاكرة دجلة والفرات، وإلى الإنسان الأول الذي كتب ليبقى. لم يكتب غيلان من مسافة آمنة، بل من عمق التجربة، من مكان يختلط فيه الألم بالأمل، حيث يتحوّل الشعر إلى مقاومة، واللغة إلى خلاص، والحلم إلى وطن مؤقت.
«صرت العبك ياحبيبي بالحلم
مابين اصابيعي ..حرير»
يستهل الشاعر نصه بالفعل صرت، بما يحمله من دلالة التحوّل والتغيّر. وكأن الحلم لم يعد مكملاً للواقع، بل بديلاً عنه. المخاطَب في النص غير محدد، فهو الحبيب كما هو الوطن، وهو الحرية كما هو المعنى. صورة الحرير بين الأصابع تعكس هشاشة الحلم ورقّته، جماله وسرعة انفلاته، خاصة في فضاء محكوم بالقمع.
«ألعب..بنص اللعب
يوكع وزير
لخاطرك .. يوكع وزير
لخاطرك ..:»
ينتقل الشاعر من ذاتية الحلم إلى الرمز السياسي. اللعب هنا ليس فعلاً بريئاً، بل مساحة تخييل تتكسر فيها هيبة السلطة. سقوط الوزير وسط اللعب يختزل حلم الانقلاب الرمزي على القهر. أما التكرار لخاطرك، فيمنح السقوط بعداً إنسانياً، حيث تصبح التضحية فعلاً عاطفياً لا انتقامياً.
«حطيت فختايه على الشباج الاسمر
انته صوفر .. وانه اطير»
يحضر السجن بصورته الأكثر وضوحاً عبر الشباج الأسمر، حيث يتجسد القيد المادي. غير أن المفارقة بين الصمت والطيران تؤسس لثنائية أساسية في النص: الجسد محاصر، لكن الروح حرّة. هنا يعلن الشاعر انتصاره الرمزي، فالمخيلة لا تخضع للسجون.
«مهرتك خضره حبيبي
طرت البستان ..حتى السعف مشط راسها»
يعود النص إلى مفردات الطبيعة الجنوبية، حيث الخضرة والبستان والنخيل. المهرة الخضراء رمز للحياة والخصب والاستمرار، في مواجهة الموت والجمود. تشخيص النخيل وهو يمشط رأسه يمنح المكان بعداً حميمياً، وكأن الأرض تشارك الشاعر حلمه بالحرية.
«ومن غفت
كعدت نشيطة ممشه
لن برد الشرايع جاسها»
حتى الغفوة في هذا النص ليست نهاية. الطبيعة تستعيد نشاطها، والشرايع، بما تحمله من دلالة القيم الأولى والأنظمة البدئية، لا تفقد دفأها. يوحي المقطع بأن الروح الجنوبية قادرة على حماية جذوة الحياة مهما اشتد البرد.
«ياحبيبي..
يامفاتيح انتظارات
ومواعيد، وعساكر قرمطيه»
يتحوّل المخاطَب إلى مفاتيح، أي بدايات وحلول مؤجلة.
إحالة العساكر القرمطية تستدعي تاريخ الثورات الجذرية، والتمرّد العميق على الظلم. الانتظار هنا ليس استسلاماً، بل توتّر خلاق يسبق الانفجار.
«تلتكي الثورات بيها
وتنبع ابفيهه قصايد بابليه»
يبلغ النص ذروته حين تتلاقى الثورات، لا لتتصادم، بل لتتوحد. والقصائد البابليّة تحيل إلى الجذر الحضاري الأول، حيث كان الشعر نقشاً على الطين، وصوتاً أول في مواجهة الفناء.
«ابنادم الاول كتبها
ابنادم الاول رسم بيها مناير
للهموم الادميه»
يحيل الشاعر إلى البعد الإنساني الكوني للنص. فالشعر سابق للسلطة والدولة والقيد، والمناير هنا إشارات هداية وسط العتمة. الهم الإنساني واحد، مهما اختلف الزمن والمكان.
«وطني المكتوبه شوغاتي اعله حيطانك وصيه»
تتحول الخاتمة إلى وصية مفتوحة. القصيدة لم تعد نصاً يُقرأ، بل كتابة تُنقش على الجدران والذاكرة الجمعية. الوطن هنا شوق مكتوب، لا يُمحى، حتى في أقسى لحظات الأسر.
حرير ليست قصيدة حب عابرة، ولا نص سجن تقليدياً، بل بيان شعري عن الإنسان حين لا يبقى له سوى الحلم. يكتب كاظم غيلان من مكان مغلق، لكنه يفتح اللغة على أفق سومري بابلي جنوبي عراقي، أفقٍ لا تحدّه الجدران. إنها قصيدة تُقرأ اليوم كما كُتبت بالأمس، بذات الوجع وذات الأمل، وبذات الحرير الذي لا يُمسك باليد… لكنه يبقى.
ولعل هذا الامتداد الإنساني والرمزي في النص ليس معزولاً عن مسار الشاعر نفسه؛ فغيلان، المولود في مدينة العمارة عام 1956 في محلة المحمودية، جاء إلى الكتابة باكراً منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث نشر قصائده وكتاباته الأولى في الصحافة العراقية، جامعاً بين الشعر الشعبي والفصيح، ومكرّساً صوته في منابر ثقافية معروفة.
تنقّل بين المدن كما تنقّل بين التجارب، من العمارة إلى بغداد مطلع التسعينيات، ثم عودته إلى ميسان بعد سنوات طويلة من العمل الصحفي والثقافي، داخل العراق وخارجه، مشاركاً في مهرجانات ومؤتمرات، وكاتباً في صحف عربية وعراقية، من بينها الخليج الإماراتية عبر مكتبها في بغداد، والوطن العُمانية، والصباح، وألف باء، واليوم، والقاسم المشترك، والمجد، والريل، فضلاً عن حضوره الثقافي في القدس العربي.
وتبقى تجربة السجن بين عامي 1982 و1983، بقرار من محكمة الثورة الملغاة، واحدة من اللحظات المفصلية التي أسهمت في تعميق وعيه الشعري والإنساني، دون أن تحوّل نصه إلى خطاب مباشر أو شعاراتي. فقد ظل الشعر عنده فعلاً جمالياً وموقفاً أخلاقياً في آن واحد، كما تجلّى في منجزه المنشور، من عرس الماي ولون الليالي صعب في الشعر الشعبي، وصولاً إلى كتابه مظفر النواب:
الظاهرة الاستثنائية، الذي صدر بثلاث طبعات، بوصفه قراءة واعية لتجربة شعرية عراقية كبرى.
هكذا تتكامل قصيدة حرير مع سيرة صاحبها، لا بوصفها انعكاساً مباشراً لها، بل بوصفها خلاصة حسّ إنساني عميق، يرى في الشعر وطناً بديلاً، وفي الحلم شكلاً من أشكال الحرية، وفي اللغة ذاكرة لا يمكن للقيود أن تطالها.