
يمثل الفنان والمخرج الإذاعي محمد زهير حسام واحداً من الأسماء التي أسهمت بصمت وهدوء في تشكيل ملامح الإذاعة العراقية الحديثة، لا بوصفه موظفاً يؤدي واجباً يومياً، بل بوصفه مبدعاً امتلك وعياً عميقاً بطبيعة هذا الفن، وإيماناً راسخاً بأن الصوت وحده قادر على بناء الصورة، وإيصال الفكرة، وصناعة الأثر.
إن الحديث عن محمد زهير حسام هو حديث عن جيل آمن بالثقافة، واحترم الكلمة، وتعامل مع المايكروفون بوصفه مسؤولية أخلاقية وجمالية، لا مجرد أداة عمل. ومن ذاكرة الإذاعة والتلفزيون، تأتي هذه القراءة التحليلية لتجربته، محاولة استعادة مسيرته، وتفكيك ملامحها المهنية والفنية، وتسليط الضوء على فلسفته في الإبداع الإذاعي، وعلى وصاياه للأجيال الجديدة من المخرجين.
وباعتباري واحدا من الذين زاملوا محمد زهير لسنوات طويلة فقد عرفتُ المخرج الإذاعي محمد زهير حسام منذ سبعينيات القرن الماضي، حين كان واحداً من أبرز منتسبي إذاعة بغداد، زميلاً وصديقاً يتميز بتعدد مواهبه، يجمع بين التمثيل والإخراج الإذاعي وتقديم البرامج وقراءة النصوص. لم يكن حضوره في المؤسسة حضوراً عادياً، بل كان حضوره هادئاً، متزناً، يشي بشخصية محبة لعملها، حريصة على تطوير ذاتها، ومخلصة لاسمها المهني. من يتابع يومه الإذاعي يلحظ سريعاً حجم مشاركته في مختلف البرامج، فتارة نراه ممثلاً ضمن الفرق الفنية، وتارة مخرجاً لبرامج ثقافية أو تاريخية أو دينية، وفي كل الأحوال يظل محافظاً على مستوى واحد من الالتزام والجودة، مدفوعاً بروح المبدع الذي يرى في الإذاعة رسالة قبل أن تكون وظيفة.
ولد محمد زهير حسام في مدينة الموصل عام 1946، في بيئة عائلية بسيطة، كان والده موظفاً في مديرية البرق والبريد، يتنقل بحكم عمله بين الموصل ومدن الفرات الأوسط. هذا التنقل المبكر أسهم في توسيع أفقه، ومنحه احتكاكاً مبكراً بتنوع البيئات العراقية، وهو ما انعكس لاحقاً على حسه الفني، وقدرته على التقاط التفاصيل، وفهم المزاج العام للمتلقي. منذ سنواته الأولى، أبدى ميلاً واضحاً للقراءة، خصوصاً ما يتعلق بالسينما والمسرح، وكان شغوفاً بمشاهدة الأفلام العربية والأجنبية ذات الطابع الدرامي الهادف، تلك التي تحمل رسالة، وتشتغل على الإنسان وقضاياه، لا على التسلية العابرة.
أما علاقته بالإذاعة، فقد كانت علاقة عشق حقيقي. كان يستمع إلى برامجها بشغف، ويتابع تفاصيلها، ويناقش مضامينها، ولا سيما في اجتماعاتنا كرؤساء أقسام في إذاعة بغداد. كان يؤكد دائماً على أهمية التمثيلية الإذاعية القصيرة، ويتابع نتاجات كتاب التمثيليات القدامى مثل إبراهيم الهنداوي وعبد الله العزاوي، ويصر على ضرورة أن تحذو الإذاعة العراقية حذو إذاعات عربية رائدة مثل إذاعة القاهرة وصوت العرب، من حيث العناية بالنص، والأداء، والإخراج، واحترام عقل المستمع.
ازداد ولعه بالإذاعة مع مرور الوقت، فوسّع دائرة استماعه لتشمل محطات عربية أخرى مثل صوت العرب وإذاعة الشرق الأوسط، وكان يرى في هذا الانفتاح ضرورة مهنية لتطوير الذائقة، ومواكبة التجارب المختلفة، والاستفادة من أساليب متنوعة في التقديم والإخراج. لم يكن منغلقاً على تجربته الخاصة، بل كان دائماً في حالة مقارنة، ومراجعة، وسعي نحو الأفضل.
تقديراً لمسيرته، حظي محمد زهير حسام بالاحتفاء في مناسبات ومنتديات ثقافية عديدة، من بينها احتفاء ملتقى الإذاعة والتلفزيون في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين بتجربته بوصفه أحد رواد الإذاعة في العراق. في ذلك اللقاء، الذي قُدم فيه من قبل الدكتور صالح الصحن، جرى استعراض محطات حياته، بدءاً من ولادته في الموصل عام 1946، مروراً بدراسته الأكاديمية، وانتهاءً بمسيرته الإذاعية الطويلة.
التحق محمد زهير حسام بأكاديمية الفنون الجميلة عام 1968، قسم المسرح، وكان خلال فترة دراسته من الطلبة النشطين، شارك في العديد من الأعمال المسرحية داخل الأكاديمية وخارجها، إلى جانب زملائه الذين أصبحوا لاحقاً من أبرز الأسماء في المسرح العراقي، مثل فاضل خليل، وعز الدين طابو، وعوني كرومي، وعبد الجبار كاظم. هذه المرحلة الأكاديمية أسهمت في صقل أدواته الفنية، ومنحته فهماً عميقاً لبنية الأداء، ولعلاقة الممثل بالنص، ولأهمية الإخراج بوصفه رؤية شاملة، لا مجرد تنظيم لحركة الممثلين.
عام 1971، انتسب إلى إذاعة بغداد، وبدأ مسيرته كمقدم برامج إذاعية متنوعة، قبل أن يتجه إلى الإخراج الدرامي للتمثيليات الإذاعية. تدرج في المناصب، فشغل منصب رئيس قسم المنوعات، ثم رئيس قسم الدراما الإذاعية، وكان له دور بارز في إشراك العديد من الفنانين في برامج الإذاعة، وإتاحة الفرصة لأصوات جديدة، إيماناً منه بأن المؤسسة الإذاعية يجب أن تكون حاضنة للمواهب، لا نادياً مغلقاً.
نال محمد زهير حسام خلال مسيرته العديد من الجوائز محلياً وعربياً، تقديراً لمهنيته وإبداعه في المجالات التي عمل فيها. تمتد تجربته الإذاعية لأكثر من ثلاثين عاماً، وهي تجربة متعددة المراحل، تبدأ من الطفولة والشباب، مروراً بالأكاديمية والمسرح، وصولاً إلى الإذاعة، التي شكلت مركز اهتمامه، وعالمه الخاص.. كان يسهر حتى الصباح مستمعاً لبرامجها، متابعاً تفاصيلها، وكأنها جزء من كيانه اليومي.. عرفناه صوتاً معبراً في البرامج الدينية، يتمتع بطبقة صوت مميزة، وقدرة عالية على النطق السليم للغة العربية، ما جعلنا نطمئن إليه عند تكليفه بهذه البرامج، سواء في تقديمها أو إخراجها. كان متذوقاً ممتازاً للنصوص التاريخية والدينية، وأذكر جيداً إعجابي ببرنامج ديني عن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قرأه وأخرجه باحترافية عالية، جعلتني أستمع إليه أكثر من مرة. سلامة لغته، وحسه الإيقاعي، ووعيه بمقام النص، فرضت حضوره، وجعلت الكثيرين يسندون إليه مثل هذه المهام.
شارك محمد زهير حسام في أعمال عديدة مع المخرج الراحل علي الأنصاري، وكذلك خلال فترة وجود المخرج الكبير مهند الأنصاري، الذي عرف بإخراجه لسير حياة كبار المطربين العرب. وفي تسعينيات القرن الماضي، أخرج محمد زهير مسلسلات بدوية، أثبت فيها قدرته على التعامل مع بيئات درامية مختلفة، وعلى توظيف الصوت والمؤثرات لبناء فضاء تخييلي متكامل.. كان يحكي لنا في لقاءاته الإذاعية قصة دخوله عالم الفن، التي جاءت في بدايتها نتيجة إصرار والده على تعيينه في وظيفة مستقرة، قبل أن تقوده الصدفة إلى أكاديمية الفنون الجميلة، حيث وجد نفسه، وبدأ مشواره الحقيقي. ورغم صعوبة الظروف المعيشية، أصر على تحقيق حلمه، مؤمناً بأن الفن ليس ترفاً، بل خيار حياة.
كان محمد زهير حسام يرى أن الإذاعة عالم خاص، من يدخله يغرق في بحر المهنية الواسعة، لأنها وسيلة مسموعة، لا مرئية، ما يفرض على المخرج والمذيع والكاتب أن يجسدوا الصورة بالصوت. من هنا يبدأ التخصص الحقيقي، ويولد العشق الإذاعي الذي يلازم صاحبه طوال حياته. ولهذا ظل يفضل الإذاعة على التلفزيون، رغم نجاحه في التمثيل في المسلسلات التلفزيونية التاريخية، وبقي بعيداً عن الأضواء، مكتفياً بالمايكرو فون صديقاً حميماً.
تزوج من الزميلة المذيعة راجحة صادق، التي شكلت معه ثنائياً إذاعياً مميزاً، يجمع بين البيت والعمل. عرفت راجحة بهدوئها، وقدراتها الصوتية العالية، وتألقها في برامج الصباح وآخر الليل، وتولت رئاسة قسم المنوعات في إذاعة صوت الجماهير لسنوات، وقدمت نموذجاً ناجحاً في الإدارة والإبداع، واستمرت في تقديم برامجها حتى بعد عام 2003.
عام 1989، حين تقرر نقل عدد من الزملاء إلى التلفزيون، كان محمد زهير من بينهم، لكنه عاد إلى الإذاعة بعد فترة قصيرة، مؤكداً أنه لم يشعر بنشوة العمل هناك، وأن مكانه الطبيعي هو خلف المايكرو فون.. عمل أيضاً عضواً في اتحاد الإذاعيين والتلفزيونيين، وأسهم في تنظيم العديد من الفعاليات، وإعداد الملفات الرسمية للزملاء.
وفي خلاصة تجربته، كان محمد زهير حسام يؤكد دائماً أن العمل الإذاعي هو مزيج من الإبداع والتقنيات، لكنه يحذر المخرجين الجدد من الاعتماد المفرط على تقنيات الأجهزة الحديثة، لأنها، برأيه، قد تقتل الإبداع إن لم تُسند برؤية فنية واعية. تلك الوصية تختصر فلسفته المهنية، وتكشف عن جوهر تجربته، التي ظلت وفية للصوت، وللإنسان، وللمعنى.