
ولد الروائي والدبلوماسي اليوغسلافي إيفو أندريتش عام 1892 في بلدة دولاتس القريبة من ترافنيك، ودرس في زغرب وفيينا وكراكوف، وانخرط شاباً في محاولات البحث عن هوية للجنوب السلافي، الأمر الذي كلّفه الاعتقال خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد الحرب، التحق بالسلك الدبلوماسي في مملكة يوغسلافيا، متنقلاً بين بعثاتها في روما ومدريد وجنيف ومرسيليا. ثم بلغ ذروة المسار حين عُين سفيراً لبلاده في برلين بين عامي 1939 و1941، في لحظة أوروبية مشحونة بالقلق .
غير أن أندريتش، الذي يعرف أن الدبلوماسية تكتب على الماء، لجأ إلى الأدب ليخلّد ما قد يتبعثر. فجاءت ثلاثيته الروائية عام 1945 جسر على نهر درينا، ووقائع مدينة ترافنيك، والآنسة. في الأولى تتكثف أربعة قرون من حياة البوسنة بين حجارة الجسر ومياه النهر، وفي الثانية تتحول المدينة العثمانية الصغيرة إلى مسرح لصراع القناصل والقوى الكبرى، وفي الثالثة نلتقي امرأة وحيدة تختزن قسوة العادات وطموح المال. هكذا أعاد الكاتب تشكيل الذاكرة ببصيرة من يعرف هشاشة البشر أمام محنة التاريخ.
كان أسلوب أندريتش هادئاً، رزيناً، لكنه يلسع مثل برد البلقان حين يهب فجأة. لذلك لم يكن غريباً أن تمنحه الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب عام 1961، عن « قوته السردية التي ترسم مصائر البشر في سياق تاريخي عريض». نوبل لم تغيّر طباعه، ظلّ يعيش ببساطة في بلغراد، يكتب قصصه القصيرة، ويستقبل أصدقاءه بين أكواب القهوة البوسنية الثقيلة.في الثالث عشر من آذار 1975، غاب إيفو أندريتش عن الدنيا بهدوء يشبه سرده. لكنه ترك لنا مكتبة من الضوء والظل، ووجوهاً تمشي في الأزقة الحجرية، وتاريخاً يطل من شبابيك البيوت العثمانية. كلما قرأت له شعرت بأن الأدب يمكن أن يكون جسراً آخر على النهر، جسراً يعبر الزمن ويصالح الذاكرة مع نفسها. لعل هذا ما نحتاجه اليوم، نحن الذين نبحث في خراب العالم عن معنى يرمم أرواحنا.
ولعل سر جاذبية هذا الكاتب أنه لم يكتب عن البوسنة بوصفها رقعة على الخريطة، بل ككونٍ صغير تتجاور فيه الأديان واللغات والطقوس، ويتجاور فيه أيضاً الخوف والأمل. كان ينصت إلى لغة التفاصيل: صرير باب، قطرة مطر على سطح الجسر، أو حكاية عجوز تبيع الخوخ على الطريق بين فيشيغراد وسراييفو. هذه التفاصيل التي قد تبدو هامشية هي التي صنعت عالماً لا يُنسى. وعندما تمشي اليوم في أسواق سراييفو القديمة، أو تقف أمام الجسر الحجري عند الغروب، تشعر بأن ظلال أبطال أندريتش ما زالت تعبر معك، وأن الأدب العظيم لا ينتهي بموت صاحبه، بل يبدأ من حيث تتوقف حياته، ليواصل الحكاية بلسان القرّاء وأحلامهم.من يقرأ أندريتش سيكتشف أن الرواية ليست أوراقاً توضع فوق الرفوف، بل مرآة نتأمل فيها هشاشتنا نحن أيضاً، ونبحث خلف اللغة عن طوق نجاة صغير، تماماً كما يفعل المسافر على ضفاف نهر درينا. هناك تبدأ الحكاية من جديد. دائماً .