
تشهد العلاقات العراقية القطرية تحولاً واضحاً في السنوات الأخيرة حيث تعمل الدوحة على بناء مسار جديد من الانفتاح تجاه العراق يعتمد على الدبلوماسية السياسية الهادئة وامتداد نفوذها الناعم عبر الرياضة والإعلام والاستثمار في وقت يتابع الشارع العراقي هذا الحراك بتفسيرات متعددة بعضها يرى فيه تطويراً للعلاقة وبعضها يربطه بشخصيات سياسية لها صلات أو مصالح متنامية مع قطر ومع ذلك فإن ما يجري على الأرض يبدو أكبر من مجرد رسائل سياسية فردية فهو مشروع دبلوماسي واسع تقوده الدوحة لاستعادة موقعها في المشهد الإقليمي من بوابة بغداد
برزت ملامح هذا التحول خلال بطولة خليجي 25 التي استضافتها البصرة عام 2023 حيث أظهرت قطر من خلال مؤسساتها الإعلامية توجهاً لافتاً في إبراز الصورة الإيجابية للعراق مركزة على نجاح التنظيم وحفاوة العراقيين وضيافتهم هذا التحول الإعلامي لم يكن خطوة عابرة بل عكس رغبة قطرية في بناء ثقة جديدة والاقتراب من العراقيين بوسائل أكثر تأثيراً من الخطاب الدبلوماسي التقليدي ومع هذا التوجه بدا واضحاً أن الدوحة قررت الانتقال من مرحلة القراءة المتحفظة للمشهد العراقي إلى مرحلة التفاعل المباشر
وتعزز هذا المسار في بطولة كأس العرب التي استضافتها الدوحة لاحقاً حيث وفّرت قطر للجماهير العراقية تجربة استثنائية من حيث التنظيم وتسهيلات الدخول ومساحات الاحتفال ولعل أبرز ما ميز تلك المرحلة هو إصرار الدوحة على فتح أبوابها أمام العراقيين ليكونوا جزءاً من الحدث وهو ما منح العلاقة بعداً شعبياً واسعاً عابراً للتقارب الرسمي ورسّخ حضور العراق في الفضاء الرياضي والإعلامي الخليجي
أما على صعيد الدبلوماسية السياسية فقد بدأت الدوحة خلال الأعوام الماضية بتكثيف لقاءاتها الرسمية مع بغداد وتوسيع إطار التعاون الاقتصادي خصوصاً في العاصمة العراقية حيث تعمل شركات قطرية على استثمارات متنوعة ترافقها مشاركات فاعلة في معرض بغداد الدولي ما يعكس رغبة حقيقية في أن تشكل قطر شريكاً اقتصادياً مستقراً في مرحلة إعادة بناء العراق ويمثل هذا التوجه جزءاً من سياسة قطرية أوسع تهدف إلى تأمين حضور اقتصادي مؤثر في البيئات العربية التي تشهد انفتاحاً وتحوّلاً وفي مقدمتها العراق على الجانب الإعلامي والاجتماعي تواصل الدوحة اليوم عبر بطولة كأس العرب والفعاليات المتزامنة دعوة الإعلاميين وصنّاع المحتوى العراقيين للمشاركة في تغطياتها إدراكاً منها لأهمية التأثير الرقمي في تشكيل الرأي العام وهذا الانفتاح يعكس استخداماً ذكياً «للدبلوماسية الناعمة» يقوم على توظيف المنصات الحديثة لإيصال رسائل سياسية وثقافية إيجابية فيما تشكل الملاعب القطرية وفي مقدمتها «استاد البيت» بتصميمه المستوحى من الخيمة البدوية رمزاً لربط الهوية الخليجية بالحضور العربي ومنهم العراقيون الذين وجدوا أنفسهم جزءاً من المشهد دون فاصل ثقافي أو سياسي
وتتجاوز العلاقة بين البلدين مستوى الحدث الرياضي والاقتصادي إلى مبادرات ثقافية واجتماعية غير تقليدية أبرزها فعاليات الصيادين القطريين في صحراء الأنبار برفقة الصقور وهي أنشطة تحمل مشتركاً تراثياً بين البلدين وتعزز فكرة التقارب الشعبي والثقافي بعيداً عن لغة الاتفاقيات والبيانات الرسمية
وبين قراءة العراقيين للمشهد وحديثهم عن صعود شخصيات سياسية ذات ارتباطات قطرية يبدو أن المسار الأوسع للعلاقة يتجاوز هذه الانطباعات فالدور القطري في العراق اليوم يعتمد على استراتيجية متكاملة تقوم على الدبلوماسية الهادئة وتعدد أدوات التواصل والعمل الاقتصادي المدروس والرهان على التأثير الشعبي والإعلامي ومع استمرار هذا التوجه تتهيأ المنطقة لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين تقوم على المصالح المتبادلة والانفتاح واستخدام القوة الناعمة كوسيلة لإعادة رسم خطوط التفاعل السياسي والاقتصادي والثقافي بما يمهد لشراكة أعمق وأكثر استقراراً واحتراماً للتاريخ المشترك.