رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
صمت الباطن يثري حياة الإنسان بالمعنى


المشاهدات 2107
تاريخ الإضافة 2025/12/21 - 8:30 PM
آخر تحديث 2026/01/01 - 1:07 AM

صمت الباطن حالة تكرس كينونة الإنسان وتثريها بالمعنى، إذ يتجلى فيها حضور داخلي ينعكس على ملامح الشخصية ويمنحها وقارًا يتجاوز حدود الكلام، هذا الصمت نهلت منه شخصيات ملهمة تركت أثرها العميق في الحياة. الصمت الذي يمارسه العالم أو العارف أو المربي يشع من أعماقه، ويهب مَن يقترب منه إحساسا بسحر خاص، كأن هالة خفية تحيط به أينما حضر، فيغدو حضوره مؤثرًا في أية مناسبة اجتماعية أو محفل عام. مَن يثري ذاته بهذا الصمت تترسخ في داخله قوة هادئة، توقظ في قلوب الآخرين شعورًا تلقائيًا بالاحترام، وتترك أثرًا لا تمحوه الأيام. الوقار الحقيقي لا تصنعه كثرة الكلام، ولا تنهض به الشعارات، وإنما ينبع من صمت باطني يمكث في الداخل ويتجلى في الخارج، فيبدو ألق صاحبه أكثف من الكلمات، وأعمق من الضجيج، وأكثر حضورًا حين يصمت مما يكون عليه حين يتكلم.
من مكاسب صمت الباطن صناعة شخصيات استثنائية متفردة فذة، قادرة على تحمل الوحدة والتكيف معها من غير شعور بالحاجة إلى الجري وراء شخص أو أشخاص يحتمي بهم الإنسان من وحشة الوجود. هذا الصمت يغرس في ذات الإنسان حضورًا روحيًا يبدد خوف الوحدة، ويوقظ طاقة تجعل الإنسان يعيش وحدته كما لو كانت فضاءً رحبًا يتأمل فيه، لا ثقلًا يطحنه. ويمنحه قدرة خلاقة تتجلى في لحظات يكون فيها وحده، إذ يشعر بصلة حيّة بما حوله، كأن الروح تنفتح على العالم في شعور يجمع بين الواحد والمتعدد، فيصير الإنسان واحدًا من حيث إنه متعدد ومتعددًا من حيث إنه واحد، يتذوق إشراقات الوجود في داخله، ويتسع وعيه لما لا يراه مَن يعيش أسير الضجيج، فتولد في شخصيته فرادةً لا تشبه غيرها، ويولد معها شعور بالامتلاء يغنيه عن التعلق بأي حضور خارجي يطلب منه أن يسد فراغًا. 
من أثمن ثمرات صمت الباطن قوة الإرادة وشحذ فاعليتها، وتنمية قدرتها على أن تسمو بالإنسان، فيحمي ذاته من أنماط الاستعباد المتعددة. في هذا الصمت تتولد طاقة خلّاقة تمكّن إرادة الإنسان من التحرر من كل حاجة أو رغبة تستولي عليه، وتمنحه قدرة على أن يزهد بالحاجات المفتعلة، مهما كان بريقها أو إغواؤها. العرفان في الأديان، لا سيما في أكثر الأديان الآسيوية، ينشغل بالصمت انشغالًا عميقًا، ويبتكر رياضات روحية متنوعة تستمد من الصمت قوتها، وتستقي منه طاقتها. الإرادة تتجذر وتشتد حين يصير الصمت ارتياضًا روحيًا يلتزمه الإنسان بانتظام يومي، فيتسع وعيه، وتصقل ذاته، ويتشكل في داخله حضورٌ للذات يمنحه قدرة على مقاومة كل ما يبعثره. في فضاء الصمت هذا تولد في الإنسان شجاعة هادئة تجعله يعيش حرًا من سطوة الإغراء، عصيًا على استعباد الرغبة، ويستعيد بها سيادته على ذاته، من غير أن يركن لأي قوة خارجية.
صمت الباطن منبع للنور والحكمة والسلام، وجذوة تولد طاقة تتيح للإنسان أن يسافر في رحلة يتوغل فيها لاكتشاف الطبقات الغاطسة في ذاته، وما يختبئ في أعماقها، ويبدأ التعرف على الإنسان والعالم من حوله. مَن يعجز عن التوغل في ذاته، وعن معرفة ما يغوص في باطنه، يعجز عن اكتشاف العالم، وعن التعرف على الإنسان المختلف. الصمت نافذة ضوء للتأمل والنظر بعيد الغور، وللتدبر في الذات، ولانبثاق الأسئلة الوجودية الكبرى.كما تنبثق هذه الأسئلة في فضاء الصمت، تتوالد بعض اجاباتها في هذا الفضاء، إذ يتفتح الوعي على معان أعمق، وينفتح الادراك، وتتسع الرؤية لما يتعذر على العقل المشتت التقاطه. هكذا يصير الصمت ملهمًا للمعنى، ومولدًا لإجابات تتناغم مع واقع الانسان، وتعينه على بناء ذاته، وصياغة فهمه، وتؤهله للاقتراب من جوهر تجربته في الوجود. 
تكسر وسائل الاتصال الحديثة والتطبيقات المتعددة الصمت، فأينما يذهب الإنسان اليوم تلاحقه الفضائيات وتطبيقات التواصل المتنوعة، وتقصف وعيه بسيل هادر ليل نهار من كلام مكرر غارق بدعاية مبتذلة. أكثر الأخبار السياسية مريرة، وكثير ممن يقدمون التحليلات تتحول مهنتهم إلى تكديس الكلام على الكلام، كأن حضورهم يقوم على الاغراق في الثرثرة والدعاية البليدة، لا على تقديم رؤية واقعية تكشف الغموض والتشويش والالتباس لدى المتلقي. بعضهم يتكلم بكلمات بلهاء، كأن مهنته الحكي بلا توقف، من غير عناية بمضمون ما يقول أو قيمته أو صدقيته، فتتحول اللغة في فضاء الاعلام إلى ضجيج يعطل التفكير، ويبتلع الصمت الذي يحتاجه الانسان ليستعيد اتزانه، ويعيد بناء وعيه.
 ‏ أتاحت تطبيقات وسائل التواصل للجميع أن يتحدث للجميع، فحين يحضر إنسان جاهل ثرثار على منصة يلتقي فيها مليارات البشر يظل يهذي بطريقة تصيب المتلقي بشرود ذهني، وحين تقرأ كلماته أو تستمع إلى أحاديثه أو ترى ما ينشره من صور واشكال تعبيرية يتولد لديك شعور بالنفور. بعدما كان هذا الانسان لا يتحدث سوى لعدد محدود في مقهى أو مجلس أو مناسبة اجتماعية، فإذا به اليوم يعبث على صفحته في هذه المنصات من غير رقيب ولا وعي بالأثر المؤذي لما يفعل.
كان الصمت أكثر من الكلام في حياة الإنسان، غير أن تضخم الديموغرافيا وازدحام الأرض بالبشر، وتراكم فضلات المنشآت الصناعية، وهستيريا الحروب، والتغير المناخي، مزقت صمت العالم، وقدمت الكائنات الحية التي توطنت الأرض منذ مليارات السنين قربانًا لعبث الإنسان واستهلاكه الفاحش للموارد الطبيعية، واستئثاره بكل شيء، وإبادته المتوحشة للأنواع الحية بوسائل فتاكة لا تعرف رحمة، حتى صارت بقايا هذه الأنواع تستغيث فلا تغاث، فزعًا من قهر الإنسان وما يحدثه من دمار شامل يلتهم ما تبقى من حياة كانت تستحق أن تعيش تحت الشمس. في هذا المشهد الكوني المأزوم لم يعد الصمت فضيلة وجودية كما كان، بل صار ضحية أخرى من ضحايا نزق الإنسان وغروره، إذ لم يكتف بتخريب الطبيعة، وإنما صادر سكونها، وحول الأرض إلى فضاء صاخب يضج بالآلات والحرائق والانفجارات والأنين المكتوم. حين يفقد العالم صمته تفقد الكائنات حقها في الأمان، ويفقد الإنسان قدرته على الإصغاء لما يجري في داخله وفي محيطه، فيغدو أكثر قسوة، وأشد اغترابا، وأعمى عن العواقب. إن استعادة الصمت ليست ترفًا روحيًا، وإنما ضرورة أخلاقية ووجودية، تعيد للإنسان تواضعه أمام الحياة، وتوقظه على مسؤوليته تجاه الأرض، وتذكره أن العيش المشترك لا يقوم على الاستحواذ والقهر، وإنما على الإصغاء العميق، والاحترام، وحفظ التوازن الذي بدونه لا يبقى للحياة معنى ولا للأرض مستقبل.


تابعنا على
تصميم وتطوير