
بدأ أيمن يصور لي مجموعة من الفيديوهات التي أقوم بإرسالها فوراً إلى كروب الأصدقاء، ليشاركوني متعة رؤية نهر درينا على الرغم من شدة الظلام ونحن نقترب من منتصف الليل، ويعيشوا معي دهشة السير على ذلك الجسر التاريخي الذي طالما شغل مخيّلتنا، يوم قرأنا رائعة أندريتش «جسر على نهر درينا».
في بداية مقتربات الجسر، تشير لوحة كبيرة من حجر الغرانيت الأسود المصقول، كُتبت باللغات الصربية، والبوسنية ـ الصربية، والإنكليزية، إلى أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة « اليونسكو» قد أدرجت جسر محمد باشا سوكولوفيتش في فيشيغراد على قائمة التراث العالمي سنة 2007، في اطار اتفاقية حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي. ويُعّد هذا الإدراج اعترافاً بقيمته العالمية الاستثنائية، وبضرورة الحفاظ عليه وصونه من أجل خير الإنسانية جمعاء.
يقع هذا الجسر على نهر درينا، وقد شُيّد في المدة ما بين 1571 و 1577، وهو من إبداع مهندس البلاط العثماني معمار سنان، أحد أعظم البنّائين في تاريخ العمارة. وقد بُني الجسر بأمر من الصدر الأعظم محمد باشا سوكولوفيتش، المولود قرب فيشيغراد، والذي ترك في هذا الجسر ـ كما يعبّر النص – نذراً مهيباً في قلبه . وبفضل أناقة تناسبه الفريدة، وجلال بنيته، وامتياز تنفيذه، يُعدّ هذا الجسر شهادة مكتملة على جمال الطراز العثماني الكلاسيكي . تم تشييد الجسر من الحجر القيري، بطول يقارب 180 متراً، وبارتفاع مدروس يمنحه خفة بصرية رغم صلابته. وأكثر ما يشدّ النظر فيه أقواسه الأحد عشر، وهي أقواس نصف دائرية متعاقبة، تتدرّج سعاتها بانسجام دقيق، وكأنها أنفاس متساوية لجسد واحد . وكل قوس ينهض من دعامة راسخة، ثم يهبط برفق إلى الدعامة التالية، ليصنع خطاً متموجاً يعكس جريان النهر تحته. وفي منتصف الجسر تقريباً، تتسع البنية لتشكّل فسحة جلوس حجرية. أما سطح الجسر فهو مرصوف بحجارة ملساء صقلتها القرون، تميل قليلاً نحو المنتصف، في توازن دقيق بين الانحدار والارتفاع. أما الحواجز الجانبية فبسيطة، منخفضة، لا تحجب النظر عن الماء ولا تعزل الماشي عن المشهد، وكأن المعمار قصد أن يظل العابر في حوار مفتوح مع النهر.
كان الجسر يبدو أثناء وصولنا اليه ليلاً كتاريخ صامت، يراقب ما تبقّى من العابرين، ونحن منهم، عابرين غير متوقَّعين في هذا الركن من العالم. ومعنا مجاميع من الشباب الصرب، بنين وبنات، يتسامرون هنا وهناك على المقاعد الحجرية، وكأن الجسر بأقواسه لا يربط ضفتين فحسب، بل يربط الزمن بالذاكرة، والحجر بالحكاية.
إن هذا الجسر، كما يصفه إيفو أندريتش في روايته « هو الممر الوحيد الدائم المضمون على المجرى الأوسط والأعلى من نهر درينا، وهو العقدة اللازمة التي تربط بين البوسنة والصرب، وتربط من خلال الصرب بين البوسنة وسائر أجزاء الإمبراطورية العثمانية حتى إسطنبول» .