
ليس هذا الحوار استعادةً لسيرة ذاتية بقدر ما هو شهادة مهنية وتاريخية لصحفي عراقي عايش التحولات الكبرى في المنطقة والعالم، وكتبها من قلب الحدث لا من هامشه.
في هذا الحوار المفتوح، يروي سلام مسافر تجربته الممتدة على أكثر من أربعة عقود في الصحافة المكتوبة والمرئية، متنقلًا بين بغداد السبعينيات، ومنفى موسكو، وشاشات الإعلام الدولي، شاهدًا على انهيار الاتحاد السوفيتي، وحروب أفغانستان، وتحولات الدبلوماسية الروسية، وصعود الإعلام العابر للحدود.
بهدوء الصحفي المخضرم، ووعي المثقف الذي خبر السلطة والمنفى معًا، يتحدث مسافر عن أخلاقيات المهنة، وحدود الحرية، ومعنى الاستقلال الصحفي، وتجربته في قناة RT Arabic منذ تأسيسها، مؤكدًا أن الإعلام الحقيقي ليس صخبًا ولا اصطفافًا، بل مسافة نقدية واحترام للعقل والمشاهد.
إنه حوار في الذاكرة والمهنة، في السياسة والإعلام، وفي ما بقي من أسئلة الصحافة في زمن الضجيج.
* اهلا وسهلا بك من العراق الى موسكو .
ــ اهلا ومرحبا بك اخ جمال، وكلي سعادة ان اشم رائحة العراق بلدي الحبيب .
* لنبدأ من البدايات. كيف تتذكر نشأتك الأولى والبيئة التي تشكل فيها وعيك الثقافي؟
ــ نشأت في أسرة ميسورة متوسطة الحال، وكان التعليم قيمة راسخة داخل البيت؛ فجميع الأشقاء أكملوا دراستهم وشغلوا وظائف حكومية مختلفة. أحد إخوتي كان أمين مكتبة، وهذه كانت نعمة مبكرة بالنسبة لي، إذ وفرت لي فرصة نادرة للقراءة بين جدران مكتبة تفوح منها رائحة الورق والحبر، بما تحويه من كتب ومجلات، بعضها كان ممنوعًا أو نادر التداول. الشقيق الأكبر كان حريصًا على اقتناء المجلات المصرية والكتب النادرة، ما جعل علاقتي بالقراءة علاقة حميمة ومبكرة، وأسهم في تكوين ذائقتي الثقافية والفكرية.
* وهل كان للسياسة حضور في محيط العائلة؟
ــ في الواقع، لم ينخرط إخوتي في العمل السياسي، ولم يُعرف عنهم الانتماء إلى أحزاب بعينها، وإن كانوا جميعًا متحمسين لقضايا الوطن والأمة. المفارقة أنني كنت الوحيد بينهم الذي “تورط” في العمل السياسي، رغم أنني آخر العنقود. هذا الانخراط كلّفني الكثير، فقد خسرت عامًا دراسيًا كاملًا في الجامعة نتيجة انضمامي إلى حركة المقاومة الفلسطينية مع الجبهة الديمقراطية، وهناك بدأت أولى خيبات الأمل من عالم السياسة العربية وتعقيداته.
* متى وكيف كانت خطوتك الأولى في عالم الصحافة؟
ــ دخلت عالم الصحافة من أصغر أبوابه وأكثرها رقة. بدأت محررًا وكاتب سيناريو في مجلتي «مجلتي» و«المزمار»، اللتين صدرتا عن وزارة الإعلام مطلع سبعينيات القرن الماضي. كان ذلك برعاية وكيل الوزارة آنذاك، الجادر، ورئاسة تحرير إبراهيم السعيد. لكن مع تغيّر رؤساء التحرير، والعلامة الحمراء التي كانت ترافق ملفاتنا نحن الصحفيين غير المنتمين لحزب السلطة، انتقلت للعمل بالقطعة مع مجلة «ألف باء».
* كيف تصف تجربتك في «ألف باء»؟
ــ كانت «ألف باء» مدرسة حقيقية. رأس تحريرها عبد الجبار الشطب، وكان فاضل العزاوي سكرتيرًا للتحرير. أول تقرير ميداني نُشر لي بتوقيعي كان عن حريق عبارة تقل مشاركين في فعالية نظمها المركز الثقافي الفرنسي في بغداد. الحريق وقع بعد العودة من جزيرة «أم الخنازير» إلى شاطئ أبي نواس، وهي جزيرة أصبحت لاحقًا محرّمة لقربها من القصر الجمهوري. بعد ذلك توالت التحقيقات، وكاد أحدها أن يفتح أمامي أبواب المعتقل لولا الموقف المهني الشجاع لعبد الجبار الشطب.
* من أبرز التحقيقات التي أثارت ضجة آنذاك؟
ــ لا شك أن تحقيق الغلاف الذي حمل عنوان «ألف باء تفتح ملف الجنس السري في العراق» كان الأكثر إثارة. العنوان أغضب رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، الذي اتصل برئيس التحرير مستنكرًا. غير أن الشطب دافع عني وعن مضمون التحقيق بشجاعة ومهنية، ما خفف من غضب الرئيس وأدى إلى إغلاق القضية. كإجراء موازٍ، كُلّف العالم والكاتب زهير أحمد القيسي بكتابة مقال بعنوان «الجنس في الإسلام» ردًا على التحقيق الاجتماعي، وبذلك كُفينا شر الاعتقال.
* بعد «ألف باء»، إلى أين اتجهت؟
ــ انتقلت للعمل في جريدة «الجمهورية» خلال حقبة رئيس التحرير سعد قاسم حمودي، وتحديدًا في «الصفحة الأخيرة». كانت تلك الصفحة تُقرأ قبل غيرها، وشارك في تحريرها نخبة من الصحفيين مثل سعود الناصري ونصير النهر وعباس البدري وليلى البياتي. كنا نكتب بمداد القلب، حتى تحولت الصفحة إلى جريدة داخل الجريدة، الأمر الذي أثار حفيظة بعض الصحفيين التقليديين من الجيل القديم.
* وكيف كانت الأجواء العامة في العراق آنذاك؟
ــ كان العراق يعيش فترة هدوء وانتعاش سياسي واقتصادي انعكس إيجابًا على الحياة الثقافية والصحافة. لم نكن نشعر بوطأة رقابة خانقة، وكان الباب مفتوحًا للأقلام المختلفة فكريًا وسياسيًا. للتاريخ، أقول إن سعد قاسم حمودي وفر بيئة عمل مشجعة على الإبداع، وهو ما تكرر لاحقًا حين عملت في مجلة «الإذاعة والتلفزيون» مع زهير الدجيلي ومحمد سعيد الصحاف.
* متى بدأ التحول نحو المنفى؟
ــ بين عامي 1972 و1978 عشنا سنوات أمل، لكنها انتهت سريعًا. في ربيع 1978، تلبدت سماء العراق بغيمة سوداء مع أخبار الإعدامات وحملات الاعتقال، وتفكك التحالف بين البعث والشيوعيين. ضُيّقت الخناق على الصحافة، ولم يبق أمامي سوى خيار النزوح. غادرت بغداد في حزيران/يونيو 1978 في رحلة محفوفة بالمخاطر، ولم أشعر بالأمان إلا بعد أن دخلت الطائرة الأجواء التركية في طريقها إلى موسكو.
* وهل كانت موسكو بداية جديدة؟
ــ نعم، وصلت موسكو بتأشيرة سياحية، وكان في استقبالي الروائي الكبير غائب طعمة فرمان. من هناك بدأت رحلة المنفى الطويلة، التي ستقودني لاحقًا إلى تجربة إعلامية جديدة، تشكلت ذروتها مع قناة «روسيا اليوم»،
* ما الفلسفة المهنية التي حكمت عملكم في قناة RT Arabic منذ انطلاقتها؟
ــ حرصنا، ولا نزال، على احترام الضيف والمشاهد معًا. لم نكن يومًا دعاة فرض رأي، ولا أدوات انحياز لموقف مسبق، بل التزمنا الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. هذه ليست عبارة إنشائية، بل ممارسة يومية داخل غرفة الأخبار وأمام الكاميرا. كنا نبحث دائمًا عن الجديد والمفيد والممتع، وقدمنا عصارة تجربة صحفية امتدت لأكثر من أربعة عقود، واضعين نصب أعيننا هدف إنجاح قناة RT Arabic بوصفها مشروعًا إعلاميًا مهنيًا لا بروباغندا عابرة.
* كيف تطورت مسؤولياتك داخل القناة مع مرور الزمن؟
ــ بدأت مراسلاً مع تأسيس القناة، ثم عملت كبيرًا للمذيعين، وتوليت لاحقًا رئاسة قسم البرامج السياسية – الاجتماعية قبل أن تبلغ القناة عقدها الأول. في الشكل كنا نتجدد باستمرار، نلاحق أدوات العصر وإيقاعه، أما في المضمون فلم نغفل الزمن ولا تحولات الوعي. الزمن، كما يسميه العرب قديمًا عبر مؤشر الساعة «العقارب»، يلدغ من يهمله، ونحن سعينا ألا نتركه يقضم وعينا أو يسمم قلوبنا.
* عملت مراسلاً من موسكو في مراحل مفصلية من تاريخ العالم، كيف تنظر إلى تلك التجربة اليوم؟
ــ خلال عملي مراسلاً إذاعيًا وتلفزيونيًا وكاتبًا صحفيًا من العاصمة الروسية، عاصرت أحداثًا غيرت وجه العالم، في مقدمتها انهيار الاتحاد السوفيتي. بدا الأمر للبعض وكأنه حدث في لمح البصر، لكنه في الحقيقة كان سقوطًا حتميًا لنظام منخور من الداخل. كتبت آنذاك سلسلة مقالات عن الانهيار، وعن كارثة تشيرنوبيل، وعن وقائع خطيرة كنت شاهدًا ومشاركًا في تفاصيل بعضها، وهذه ستصدر قريبًا في كتاب.
* كيف تلخص تجربتك المهنية قبل وبعد التحاقك بـ RT؟
ــ أستطيع القول إنني كنت دائمًا متوافقًا مع نفسي. لم أخضع للإملاء أو لفرض الإرادة، وفي الوقت نفسه تعلمت كيف أجد جسورًا لعبور المطبات من دون اهتزاز. هذه المعادلة ليست سهلة في العمل الصحفي، لكنها ممكنة حين يكون للصحفي موقف أخلاقي واضح من المهنة ومن ذاته.
* رافقت وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في جولات عديدة، ماذا كشفت لك هذه التجربة؟
ــ خلال رحلاتي الكثيرة مع الوزير لافروف لم أشعر يومًا بقيود مباشرة. كان منفتحًا مع الفريق الصحفي، يشرح الخلفيات ويوفر ما يساعد المراسل على بناء تقرير متوازن. ربما تغيّرت الأحوال اليوم بعد دخول روسيا حرب أوكرانيا، حيث بات واضحًا تشديد القيود وسعي القيادة إلى حصر السرد الإعلامي ضمن رؤية الكرملين، ولا مجال هنا لما أسميه الترف الفكري.
* هل تتذكر موقفًا لافتًا خلال تلك الجولات؟
ــ في إحدى عواصم الشرق الأوسط، وبعد انتهاء الدقائق البروتوكولية، غادر الصحفيون القاعة، لكن أحدًا من البروتوكول لم يطلب مني المغادرة، ربما ظنوا أنني عضو في الفريق التفاوضي. بقيت حتى نهاية جلسة صعبة، ولاحظ الوزير وجودي وابتسم في موقف لا يخلو من الطرافة والحرج. أدركت حينها أن الدبلوماسية تحتاج إلى صبر طويل ونَفَس أبعد مما يظنه الناس.
* كيف تصف الدبلوماسية الروسية من موقع المعايشة؟
ــ الدبلوماسية الروسية تقليديًا تتسم بالهدوء والحذر والأناة، والسعي إلى خلق توازنات وعدم الانجرار السريع إلى الصدام. غير أن هذا النهج تغيّر جزئيًا قبل وأثناء الحرب في أوكرانيا، حيث تصلبت المواقف وأصبحت القرارات مركزية بيد الرئيس، ولم يعد هناك مجال واسع للاجتهاد خارج التعليمات.
* انهيار الاتحاد السوفيتي ما زال حاضرًا في كتاباتك، لماذا؟
ــ لأنه كان محطة فاصلة في تاريخ العالم. الدولة العظمى انهارت خلال أيام، لكن الفساد والبيروقراطية وقمع الحريات وانعدام الرفاه كانت قد نخرت جسدها طويلًا. التدخل العسكري في أفغانستان كان من أبرز أسباب الخراب، إذ استنزف الاقتصاد في وقت هبطت فيه أسعار النفط، المورد الأساس للخزينة السوفيتية.
* ماذا تتذكر من تغطيتك للحرب في أفغانستان؟
ــ رأيت كيف كان الحشيش يُقدَّم مجانًا للجنود السوفييت، في خطة مدروسة لتدميرهم نفسيًا. كما كدت أفقد حياتي حين أفلتت طائرة عسكرية تقلنا من كابول إلى جلال أباد من صاروخ ستينغر أمريكي. هذا السلاح لعب دورًا حاسمًا في إسقاط الطائرات السوفيتية وإجبارها على الانسحاب.
* كيف تنظر إلى واقع الصحافة العراقية اليوم؟
ــ للأسف، لم تُستثمر أجواء الحرية النسبية لتطوير المهنة. ما نراه من مهاترات وشدّ لحية بلحية ليس صحافة بل سوق هرج. شيوع العامية الجلفة في قنوات تمولها الأحزاب ولصوص المال العام أساء للذائقة العامة. لدينا أقلام عراقية رصينة، لكنها تضيع وسط ضجيج الإثارة، حتى بات الجمهور يختصر كل شيء بعبارة واحدة: «حكي جرايد».