
في عصر الانفتاح والتطور التكنولوجي، يواجه المجتمع ظاهرة متزايدة تتمثل في تمرد الجيل الجديد على القيم والتقاليد الأسرية. ويرجع ذلك في جانب كبير منه إلى الأساليب التربوية التي انتهجها بعض الآباء، حيث سادت ثقافة الدلال الزائد وتقديم الرفاهية للأبناء على حساب تنمية حس المسؤولية لديهم.
إن حرص الوالدين على تلبية جميع رغبات أبنائهم دون قيد أو شرط، وتوفير حياة مريحة تخلو من التحديات، قد أسهم في خلق جيل يفتقر إلى القدرة على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الحاسمة. فالكثير من الأسر اليوم تعتقد أن الحب الأبوي يعني الحماية المطلقة والتسهيل الدائم، مما يجعل الأبناء ينشأون في بيئة خالية من الصعوبات، غير مدركين لقيمة الجهد والعمل.
هذا النمط من التربية يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يبدأ الأبناء في التمرد على كل ما يمثل سلطة أو قيداً ، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع. إذ ينشأ لديهم شعور بالاستحقاق المطلق دون إدراك أن الحياة تتطلب الالتزام والمسؤولية. كما أن غياب التجارب الصعبة من حياتهم يجعلهم أقل صبراً على تحمل الضغوط، وأكثر ميلاً للرفض والاعتراض عند أول مواجهة مع الواقع.
لذلك، أصبح من الضروري إعادة النظر في الأساليب التربوية المتبعة، وخلق توازن بين توفير الحب والاهتمام، وبين تعليم الأبناء قيمة الجهد والمسؤولية. التربية ليست مجرد توفير احتياجات مادية، بل هي إعداد فرد قادر على مواجهة الحياة بثقة واستقلالية. فالتحديات جزء أساسي من النمو، ومن دونها لن يتمكن هذا الجيل من تقدير قيمة ما يحصل عليه، ولن يكون قادراً على بناء مستقبل مستقر لنفسه ولمجتمعه.
إن إعادة بناء شخصية الأبناء على أسس قوية تبدأ من الأسرة، حيث يجب على الوالدين تبنّي نهج تربوي متوازن يجمع بين الحب والتوجيه، وبين الدعم والصرامة في مواضعها المناسبة. فمن الضروري أن يدرك الأبناء معنى العمل الجاد، وأن يشاركوا في تحمل المسؤوليات الأسرية منذ الصغر، حتى يتعلموا الاعتماد على أنفسهم، ويقدروا قيمة الجهد والإنجاز.
كما أن منحهم حرية التعبير عن آرائهم لا يعني منحهم الحق في التمرد غير المبرر، بل يجب أن يترافق ذلك مع تعليمهم آداب الحوار واحترام الرأي الآخر، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع. فالكثير من مظاهر التمرد التي نراها اليوم ليست سوى نتيجة طبيعية لغياب التوجيه الصحيح، وترك الأبناء ينشأون في عالم افتراضي مشوّش، يأخذونه كمرجع أساسي دون أن يكون لديهم أساس فكري متين يقيهم من الانجراف وراء المفاهيم الخاطئة.
إضافة إلى ذلك، تلعب المؤسسات التعليمية والمجتمع دوراً هاماً في تقويم سلوك الأجيال، حيث يجب أن يكون هناك تعاون بين الأسرة والمدرسة في تعزيز قيم المسؤولية والانضباط. فالمدارس ليست مجرد أماكن لتلقي الدروس، بل ينبغي أن تكون بيئة تُنمّي في الطلاب القدرة على التفكير النقدي، والاعتماد على الذات، ومواجهة التحديات بثقة.
خلاصة القول ، لا يمكن إلقاء اللوم بالكامل على الأبناء عند ظهور التمرد، بل هو نتاج منظومة تربوية تحتاج إلى إعادة تقييم وتصحيح. إن التربية السليمة ليست فقط في تلبية احتياجات الأبناء المادية، بل في إعدادهم لمواجهة الحياة بوعي ومسؤولية، حتى يكونوا أفراداً قادرين على الإسهام في بناء مجتمع أكثر توازناً واستقراراً .