
لا يمكن فهم تحوّل العراقي إلى محلل سياسي وإعلامي وصحفي دون وضع الظاهرة في إطارها الاجتماعي الأوسع، بعيدًا عن التفسير الانفعالي أو الاختزال الأمني المباشر. فما نشهده ليس طفرة عابرة، بل نتاج سيرورات اجتماعية معقّدة يمكن قراءتها عبر عدد من النظريات الحديثة في علم الاجتماع السياسي والإعلامي.
أولًا: تسييس الحياة اليومية (Everyday Politics)
وفق هذه المقاربة، حين تتداخل السياسة مع تفاصيل العيش اليومي – العمل، الخدمات، التعليم، والفرص – تتحول من شأن نخبوي إلى ممارسة اجتماعية عامة. في الحالة العراقية، أصبحت السياسة لغة مشتركة لفهم الواقع، لا لأنها مرغوبة، بل لأنها الأكثر قدرة على تفسير التغيّر السريع. هنا لا يصبح الفرد “محللًا” بالمعنى الأكاديمي، بل فاعلًا تأويليًا يسعى إلى ربط الوقائع بسياقها الأكبر.
ثانيًا: الاقتصاد التفسيري للفرد (Interpretive Economy)
في المجتمعات التي تعاني من هشاشة اقتصادية أو تقلبات متكررة، يميل الأفراد إلى بناء سرديات تفسيرية شاملة تختصر التعقيد. التحليل السياسي هنا يؤدي وظيفة معرفية ونفسية في آن واحد: تبسيط الواقع، وإضفاء معنى على ما يبدو فوضويًا. المواطن لا يفسّر الأحداث بدافع الفضول، بل بحثًا عن منطق يُعيد له الإحساس بالتماسك.
ثالثًا: نظرية المؤامرة بوصفها بنية ثقافية
من منظور علم الاجتماع، لا تُفهم نظرية المؤامرة كخلل في التفكير بقدر ما تُفهم كنتاج لبيئة معلوماتية مزدحمة ومتضاربة. حين تتعدد الروايات، وتغيب السردية الجامعة، يلجأ الفرد إلى التفسير الذي يملك قدرة أعلى على الربط والشمول. في المجتمع العراقي، تؤدي هذه النظرية دور “النص التفسيري الكبير” الذي يجمع شتات الوقائع في قصة واحدة قابلة للتداول.
رابعًا: المجال العام غير الرسمي
يتشكّل الوعي السياسي داخل “المجال العام”. وفي العراق، لم يعد هذا المجال مقتصرًا على الصحافة أو النخب، بل انتقل إلى الفضاءات الاجتماعية اليومية: المجالس، المقاهي، والمنصات الرقمية. هذه الفضاءات لا تنتج معرفة دقيقة بقدر ما تنتج رأيًا عامًا نشطًا، يتحول فيه كل فرد إلى متحدث ومعلّق ومحلل.
خامسًا: الإعلام الجديد ونهاية الاحتكار المعرفي
وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات ألغت الفاصل بين المنتج والمتلقي. العراقي اليوم لا يستهلك الخبر فقط، بل يعيد صياغته، ويعلّق عليه، ويمنحه سياقًا خاصًا. هذا التحول عزّز وهم “الخبرة الفورية”، حيث يُستبدل التخصص بالتجربة الشخصية، وتُستبدل المنهجية بالانطباع السريع.
سادسًا: البنية الثقافية للنقاش
المجتمع العراقي تقليديًا مجتمع جدلي، يميل إلى السرد، والمقارنة، واستحضار السوابق. هذا الإرث الثقافي، حين يلتقي مع السياسة المعاصرة، ينتج حالة من “التحليل الجمعي”، لا تهدف دائمًا إلى الوصول للحقيقة، بقدر ما تهدف إلى تثبيت الموقف وتأكيد الهوية. تحوّل العراقي إلى محلل سياسي وإعلامي ليس خللًا فرديًا، ولا ظاهرة طارئة، بل تعبير عن انتقال المجتمع من موقع التلقي إلى موقع التأويل. إنه سلوك اجتماعي تولّده بيئة مركّبة تتداخل فيها السياسة بالاقتصاد، والإعلام بالثقافة، والمعرفة بالرأي.
في مثل هذه السياقات، لا يصبح السؤال: لماذا يحلّل العراقي كل شيء؟ بل: كيف يمكن تحويل هذا الزخم التحليلي من انطباع عام إلى وعي نقدي منتج؟