
حين يُذكر الشعر العراقي المعاصر، تتقدّم أسماء حفرت تجربتها لا بالحضور العابر، بل بالاستمرار والاشتغال العميق على اللغة والرمز والرؤية. ومن بين هذه الأسماء، يبرز الشاعر والأكاديمي الدكتور سعد ياسين يوسف بوصفه واحداً من الأصوات التي استطاعت أن تبني مشروعاً شعرياً واضح المعالم، متماسك الثيمات، ومتجذّر الدلالة، حتى بات اسمه مقترناً بثيمة الأشجار، التي تحوّلت في تجربته إلى كائنات رمزية ناطقة بتاريخ الإنسان والمكان، وذاكرة العراق الجريحة.
ليست تجربة سعد ياسين يوسف مجرّد نتاج شعري متراكم، بل هي مسيرة ثقافية شاملة، تتداخل فيها الأكاديمية مع الإبداع، والنقد مع القصيدة، والموقف الوطني مع الجمالية الشعرية. شاعرٌ حمل العراق إلى المنابر الدولية، ورفع قصيدته في مواجهة الحرب والخراب، فحصد الجوائز العالمية، وفتح للشعر العراقي نوافذ جديدة على لغات وثقافات أخرى.
هذا التحقيق الأدبي يحاول أن يقرأ مسيرة الشاعر قراءة شاملة، تتتبع جذورها الأولى، وتضيء محطاتها الإبداعية، وتوثّق حضورها العربي والدولي، من دون أن تفصل بين النص وسياقه الثقافي والإنساني.
الجذور الأولى والتكوين الأكاديمي
وُلد الدكتور سعد ياسين يوسف عام 1957 في مدينة العمارة بمحافظة ميسان، المدينة التي تختزن في ذاكرتها تاريخ الأهوار والقصب والماء، والتي ستترك أثرها العميق في مخيلته الشعرية لاحقاً. نشأ في بيئة عراقية مثقلة بالتحولات، ما أسهم في تشكيل وعيه المبكر بالعلاقة بين الإنسان والمكان، وهي علاقة ستتجسد رمزياً في مشروعه الشعري.
أكاديمياً، تخرّج في كلية الآداب، قسم الإعلام، بجامعة بغداد، قبل أن يتجه إلى الدراسات العليا، ويحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر للعلاقات الدولية. هذا التكوين المزدوج بين الإعلام والتاريخ منحه أفقاً واسعاً في قراءة الواقع، وأسهم في صقل لغته النقدية وتحليل الخطاب، سواء في المجال الإعلامي أو الأدبي.
إلى جانب ذلك، انخرط في العمل الثقافي والمؤسساتي، فكان عضواً في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وعضواً في اتحاد الأدباء والكتاب العرب، وعضواً في رابطة الكتاب الأردنيين، إضافة إلى عضويته في نقابة الصحفيين العراقيين واتحاد الصحفيين العرب، ما جعله حاضراً في أكثر من فضاء ثقافي عربي.
المشروع الشعري وثيمة الأشجار
منذ مجموعته الأولى «قصائد حب للأميرة ك» الصادرة عام 1994، بدأ سعد ياسين يوسف بتأسيس صوته الخاص، غير أن التحول الأبرز في تجربته تمثّل في انشغاله بثيمة الأشجار، التي ستغدو لاحقاً العلامة الفارقة في شعره.
صدرت مجموعته «شجر بعمر الأرض» عن دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 2002، لتفتح مساراً جديداً في تجربته، أعقبتها «شجر الأنبياء» عام 2012 عن دار الينابيع في دمشق، ثم «أشجار خريف موحش» في بلغراد – صربيا، و«الأشجار لا تغادر أعشاشها» في بيروت عام 2016، و«أشجار لاهثة في العراء» في دمشق عام 2018، و«الأشجار تحلّق عميقاً» في دمشق عام 2021، وصولاً إلى مجموعته الأحدث «أشجار بلون الهديل» الصادرة عام 2024 عن دار أبجد بابل في العراق.في هذه المجموعات، لم تكن الأشجار مجرّد مفردة لغوية، بل تحوّلت إلى كيان رمزي يعكس ثنائية الثبات والاقتلاع، الحياة والموت، الوطن والمنفى. وقد بلغ هذا الاشتغال ذروته حين أطلق عليه الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لقب «شاعر الأشجار» خلال جلسة خاصة أقيمت في شارع المتنبي عام 2014 بعنوان «الأشجار ثيمة في شعر د. سعد ياسين يوسف».
الشعر في مواجهة الحرب والخراب
بلغ الحضور الدولي للشاعر ذروته عام 2012، حين فاز بالجائزة الأولى ليوم الشعر العالمي في بلغراد من بين 250 شاعراً وشاعرة من مختلف دول العالم عن قصيدته الشهيرة «قذائف وشناشيل». كانت القصيدة بمثابة صرخة إدانة للعدوان الأميركي على العراق، ولتدمير المدن الآمنة والحضارة العراقية، وهو ما منحها بعداً إنسانياً تجاوز حدود اللغة.
ترجمت القصيدة إلى عدد من اللغات الأجنبية، واحتفت بفوز الشاعر المؤسسات الرسمية العراقية، والاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، والبيوت والجمعيات الثقافية.
وفي عام 2013، عاد الشاعر ليحصد الجائزة الأولى مرة ثانية في مهرجان بلغراد الدولي للشعر عن قصيدته «قيامة بابل»، متقدماً على 174 شاعراً وشاعرة. وعلى إثر ذلك، احتفت به ثلاث مدن صربية هي بلغراد، ونيش، وأوسيجنا، وأقيمت له أمسيات شعرية، واعتمدت مجموعاته الشعرية في مكتباتها بوصفها أول كتب عربية تدخل تلك المكتبات.
الاحتفاء العربي والدولي والدراسات النقدية
لم يقتصر الاحتفاء بتجربة سعد ياسين يوسف على الجوائز، بل امتد إلى عشرات الجلسات النقدية والملتقيات الشعرية في العراق والعالم العربي. فقد احتفى به الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في جلسة خُصصت للحديث عن منجزه الشعري وتوقيع كتاب «شجر الأنبياء» عام 2010، كما احتفى المنتدى الأكاديمي الثقافي عام 2014 بصدور «أشجار خريف موحش».
في الأردن، حظيت تجربته باهتمام خاص، حيث أقيمت له جلسات احتفاء في جرش، وإربد، والرمثا، والشوبك، وعمّان، وقدم عدد من الأكاديميين دراسات نقدية عن شعره، من بينهم البروفيسور شفيق طه النوباني، والدكتور حسين البطوش، والدكتور علي غبن. كما استضافته رابطة الكتاب الأردنيين ناقداً في مهرجان الإبداع النقدي الثاني موسم البحتري عام 2016.
أما في تونس، فقد احتفت به وزارة الثقافة التونسية في بيت الشعر بتوقيع ديوانه «الأشجار لا تغادر أعشاشها»، وقدم الأستاذ الدكتور عبد الرضا علي دراسة نقدية عنه، كما احتفت بمنجزه مدينتا صفاقس ونابل، وأقيمت له جلسة في فضاء السليمانية بتونس القديمة.
وفي لبنان، نوقشت رسالة ماجستير في جامعة الجنان عام 2022 عن التشكّلات الصورية الشعرية في شعره. وفي العراق، نوقشت عدة رسائل جامعية، منها رسالة ماجستير في جامعة بغداد عام 2018، وأخرى في جامعة بابل عام 2023، ما يؤكد تحوّل تجربته إلى مادة بحث أكاديمي.
الجوائز والأوسمة والحضور المؤسسي
حاز الدكتور سعد ياسين يوسف على شهادة الإبداع لعام 2013 من وزارة الثقافة العراقية، ونال درع الجواهري من الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، ووسام الثقافة لعام 2015 من منتدى المثقفين في أميركا وكندا ودول المهجر، ووسام الثقافة ودرعه لعام 2016 من اتحاد الأدباء الدولي، إضافة إلى جائزة المثقف العربي للشعر ووسامها لعام 2016 من مؤسسة المثقف في أستراليا.
كما احتفت به اليونسكو عبر منصة بغداد مدينة الإبداع الأدبي عام 2018، واحتفى به اتحاد الأدباء العالمي بمنحه شارة الاتحاد عام 2021، وأدرج اسمه في موسوعة الشعراء العرب الصادرة عن مؤسسة صدانا، وفي موسوعة «شخصية من بلادي»، وموسوعة «الميسانيون من بناة الحضارة».
إلى جانب ذلك، كتب في مجال النقد الأدبي، وأصدر دراسة «في التضليل الإعلامي» باللغتين العربية والفرنسية عام 2002، وشارك في تأسيس المنتدى الأكاديمي الثقافي في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين عام 2013.
بهذا الامتداد الزمني والجغرافي، وبما راكمه من منجز شعري ونقدي ومؤسساتي، يظل الدكتور سعد ياسين يوسف واحداً من الأصوات التي لا تُقرأ بمعزل عن سياقها الثقافي والوطني، شاعرٌ جعل من القصيدة شجرة، ومن الشجرة ذاكرة، ومن الذاكرة موقفاً لا يساوم.