
وأخيراً بلغنا جسر محمد باشا سوكولوفيتش في مدينة فيشيغراد، ذلك الجسر الذي خلّده الروائي اليوغوسلافي إيفو أندريتش في روايته الشهيرة «جسر على نهر درينا» الصادرة عام 1945، والتي عُرف الجسر بعدها عالمياً بهذا الاسم الأدبي، في تأكيد على قدرة الرواية على تخليد الأمكنة التاريخية وانتشالها من هوّة النسيان. كان الوقت متأخراً والطقس بارداً عند وصولنا قرابة الساعة الحادية عشرة ليلاً. وقبل انطلاقنا من سراييفو، حرصنا على التأكد من وجود إضاءة ليلية على الجسر تتيح لنا التقاط بعض الصور، وسرعان ما أظهر البحث عبر الإنترنت صوراً تؤكد امتداد الإضاءة على طول الجسر الحجري، الأمر الذي شجّعنا على مواصلة الرحلة إلى مدينة فيشيغراد الجبلية، الواقعة ضمن كيان جمهورية صرب البوسنة، أحد الكيانين المكونين لدولة البوسنة والهرسك.أوقف أيمن سيارته في موقف قريب من الجسر، واتجهنا مشياً نحو ضفة نهر درينا، في ليلٍ منعش يميل إلى البرودة، على الرغم من أننا في منتصف حزيران / يونيو. كانت الأضواء الملونة تنعكس على صفحة النهر، وبدا الجسر كأنه حكاية متجمدة من زمنٍ اسطوري، فخطر ببالي قول المتصوف محي الدين بن عربي « الزمان مكانٌ سائل، والمكان زمانٌ متجمد». وقفتُ على حافة النهر، وكان أول ما فكرت به تسجيل لقطات فيديو قصيرة لإرسالها إلى مجموعة من الأصدقاء في كروب على الواتساب يتابعون تفاصيل رحلتي، وخصّصت بالذكر منهم الصديق الدكتور هاشم حسن، محاولاً أن أستعيد معه ذكريات منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين كنّا نسعى جاهدين للحصول على نسخة من رواية جسر على نهر درينا بترجمتها العربية التي أنجزها الراحل سامي الدروبي عام 1984. وكان أندريتش قد نال جائزة نوبل للآداب عام 1961 عن مجمل أعماله الروائية، وفي مقدمتها « الفناء الملعون»، وهذه الرواية التي جعل فيها المكان - ممثلاً بالجسر- البطل الحقيقي للأحداث. ذلك الجسر الذي أمر بتشييده الصدر الأعظم « رئيس الوزراء» في الدولة العثمانية محمد باشا سوكولوفيتش، أو سوكلو محمد باشا، على نهر درينا، في موطنه الأصلي . ولد محمد باشا سوكولوفيتش نحو عام 1505م في قرية صغيرة قرب فيشيغراد، شرقيّ البوسنة، لأسرة مسيحية سلافية متواضعة. وفي طفولته أُخذ ضمن نظام الدَفْشِرمة - وهو نظام إداري وعسكري اعتمدته الدولة العثمانية، يقوم على جمع الأطفال الذكور من العائلات المسيحية في البلقان والأناضول، وإلحاقهم بخدمة الدولة بعد تعليمهم وتربيتهم تربية خاصة - إلى إسطنبول، حيث اعتنق الإسلام وتلقى تعليماً صارماً في المدارس العثمانية، جمع بين العلوم العسكرية والإدارية واللغات. أظهر سوكولوفيتش منذ وقت مبكر ذكاءً وانضباطاً استثنائيين، فترقّى في المناصب العسكرية والبحرية، حتى أصبح قائداً للأسطول، ثم والياً، قبل أن يُعيَّن صدراً أعظم للدولة العثمانية. شغل هذا المنصب الحساس في عهد ثلاثة من كبار السلاطين، سليمان القانوني، وسليم الثاني، ومراد الثالث، وكان خلالها العقل المدبّر للإمبراطورية في ذروة قوتها، يحفظ توازنها السياسي ويقود إدارتها اليومية بحنكة واقتدار. وقد خلّد اسمه ببناء جسر محمد باشا سوكولوفيتش على نهر درينا، بوصفه رمزاً لوصل الشرق بالغرب، قبل أن يُغتال في إسطنبول عام 1579م، تاركاً وراءه سيرة رجلٍ خرج من قرية منسية، ليغدو واحداً من أعمدة التاريخ العثماني.