رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
الطريق إلى المدينة العالية


المشاهدات 1162
تاريخ الإضافة 2025/12/07 - 9:03 PM
آخر تحديث 2025/12/08 - 10:07 PM

وأنا أقرأ اللوحة التعريفية تحت تمثال إيفو أندريتش، قلتُ لأيمن الذي كان يلتقط لي صورة للذكرى، إن هذا الرجل واحد من الروائيين العالميين الكبار الراسخين في ذاكرة جيلنا، وما زالت أحداث روايته العظيمة «جسر على نهر درينا» ماثلة في ذهني منذ قراءتها منتصف الثمانينيات إلى اليوم، بعد ترجمتها إلى اللغة العربية، وإن غابت عني تفاصيلها الدقيقة وأسماء شخوصها. التفتَ أيمن إلى اسم نهر درينا وسألني فجأة : أين يقع هذا النهر؟. في الحقيقة، عندما قرأتُ الرواية قبل نحو أربعين عاماً، كنتُ أعلم بالطبع أن أندريتش مواطن وأديب ودبلوماسي يوغوسلافي، وأن النهر يجري في بلاده يوغوسلافيا التي تشظّت في التسعينيات إلى ست جمهوريات ودول لاحقة، لكنني لم أعد أدري في أي بلد يمر النهر الآن. كان لا بد من الاستعانة بـ «غوغل» لأكتشف خلال ثوان أن النهر يمر في مدينة فيشيغراد، واسمها يعني « المدينة العالية» أو « القلعة العليا»، وفيها يقع الجسر الذي خلدته الرواية. المدينة تبعد عن سراييفو حوالي 120 كيلومتراً شرقاً، وتستغرق الرحلة إليها بالسيارة قرابة ساعتين. تأسفتُ لأن رحلتي أوشكت على نهايتها، إذ كان موعد اقلاع طائرتي ظهيرة اليوم التالي، ولم يعد لدي ما يكفي من الوقت لرؤية جسر درينا. قلتُ لأيمن : ما رأيك أن نستيقظ فجراً، نذهب إلى فيشيغراد، نفطر هناك، نعبر الجسر، ثم نعود مباشرة إلى مطار سراييفو؟ صمت قليلاً، ثم لمعت عيناه كعادته حين تتبلور فكرة في ذهنه، وقال: ولِمَ لا نذهب الآن؟ اعترضتُ : لكنها التاسعة ليلاً يا أيمن ! .
لم تكن ليلتي الأخيرة في سراييفو سوى مشهد من رواية مفتوحة، تبدأ من بارك التحرير حيث تلمع الوجوه البرونزية لأعلام البوسنة، ثم تمتد عبر طريق سراييفو – فيشيغراد، رحلة تخترق جبال البوسنة : تبدأ من الوديان المفتوحة، ثم ترتفع تدريجياً نحو الغابات الكثيفة، حيث تتلوى الطريق وسط أشجار الصنوبر المخروطية دائمة الخضرة، قبل أن تدخل سلسلة من الأنفاق المحفورة في بطون الجبال. هنا يشعر الزائر بأنه يسلك طريقاً عسكرياً قديماً: أنفاق ضيقة، إضاءتها خافتة، والرطوبة تلتصق بزجاج المركبة. ويبلغ عدد الأنفاق في هذا الطريق نحو عشرين نفقاً متفاوتة الطول، بعضها لا يتجاوز عشرات الأمتار، وبعضها يمتد لمسافة طويلة تتطلب يقظة ومهارة في القيادة، خصوصاً في الليل، حيث بدا الطريق موحشاً ومخيفاً. وعند اقتراب المدينة، ينفتح الطريق فجأة على مشهد نهر درينا، ليظهر الجسر التاريخي من بعيد كأنه جمّد الزمن في الأقواس الحجرية. هناك وقف أندريتش ليستخلص فلسفة شعبٍ عاش على تماس عنيف بين الإمبراطوريات والأديان والحدود، فجعل الجسر رمزاً للوصل والانقسام في آن واحد: مكاناً يعبره الناس كل يوم، لكنه يخبئ بين حجراته قصة هوية موصولة بالأسئلة والدماء والتعايش. 
فيشيغراد الصغيرة الهادئة تبدو في الليل مدينة من الخيال، وعبور الجسر عند الحادية عشرة ليلاً، ورؤية الشباب من الجنسين يحيون أمسياتهم على ضفافه، صورة حديثة لمشهد تكرر منذ قرون: الجسر حياة وحكايات، لا مجرد حجر. 
 


تابعنا على
تصميم وتطوير