رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
عكاب سالم الطاهر رحلة ريفي أصبح أحد أبرز كتّاب الذاكرة العراقية


المشاهدات 1808
تاريخ الإضافة 2025/12/03 - 9:20 PM
آخر تحديث 2025/12/13 - 9:36 PM

في كل مدينة عراقية ثمة رجل يشبه خزّان الذاكرة، لكن  عكاب سالم الطاهر  ليس مجرد شاهد على زمن مضى؛ إنه السارد الذي حمل تفاصيله على كتفيه ومشى بها حتى صارت جزءاً من الوعي الثقافي العراقي. ولد على أطراف الهور، في قرية تفتح أبوابها للماء أكثر مما تفتحها للناس، وترعرع في بيت كان صوت الأذان فيه أول موسيقى سمعها، وحرارة المجالس العاشورائية أول مدرسة تزرع في روحه معنى العدالة. من تلك البيئة المتخمة بالبساطة والصدق، خرج الصبي الذي سيكبر لاحقاً ليصبح واحداً من أبرز كتّاب الذاكرة والتوثيق في الإعلام العراقي.
لم تكن رحلة عكاب مجرد انتقال من الريف إلى المدينة، بل كانت سلسلة تحولات صنعتها التجربة والمعاناة والقراءة والوعي المبكر. فقد عرف اليُتم صغيراً، وتعلّم الاعتماد على النفس، وتفتحت عيناه في مكتبات المدارس الريفية التي كانت نافذته الأولى على الفلسفة والأدب والتاريخ. وهناك، بين رفوف الكتب ودفاتر الشعر المدرسي، وُلِدَت موهبته الأولى، وتكوّنت شخصيته التي مزجت بين صرامة الريف ونعومة الحرف المكتوب.
ومع أن الشعر كان بوابة الدخول إلى عالم الأدب، إلا أن النقد القاسي الذي تلقّاه في بداياته أعاد تشكيل مساره، فاختار النثر والبحث والتوثيق، وسار في طريق الصحافة المهنية التي جعلته جزءاً من المشهد الإعلامي العراقي لعقود. لم يتغيّر جوهر الشخصية: ذلك الفتى الذي كان يقرأ في ضوء الفانوس بقي هو نفسه الكاتب الذي يرى في الورق بيتاً، وفي اللغة وطناً، وفي الذاكرة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون عملاً صحفياً.
اليوم، حين يتحدث عكاب سالم الطاهر، لا يقدّم سيرة فرد، بل يعرض سيرة مكان  و ذاكرة جيل  و ملامح زمن . إنه ابن الهور الذي حمل معه رائحة البردي إلى بغداد، ورجل المهنة الذي جمع بين التجربة الشخصية والقراءة العميقة ليصنع أسلوبه الخاص في الكتابة: أسلوب يجمع دفءَ الحياة، وصرامة المهنة، وضوء المعرفة.
البدايات… بيت يتنفس الإيمان ويزرع العدالة
في المسافة الفاصلة بين بيتين في حي بغدادي هادئ، تبدأ حكاية صداقة طويلة. فالباحث والصحفي عكاب سالم الطاهر ليس مجرد ضيف؛ إنه جار قريب، وصوت مألوف، وذاكرة تمشي على قدمين. كلما التقيناه حمل إلينا من كتبه وحكاياته ما يغني الذاكرة ويثري الوجدان. رجل عاش زمن الإذاعة والصحف الورقية، وما زال يؤمن أن الورق أكثر وفاءً من الشاشات، وأن العلاقات الإنسانية خير من كل وسائل التواصل.
عكاب يسلط الضوء على تأثير الأب والأجواء العاشورائية 
يتذكر عكاب طفولته في بيت كان الأذان فيه جزءاً من الروح، فوالده صاحب الصوت الشجي كان يرفع التكبيرات من على سطح الدار، يزرع الطمأنينة في النفوس، ويؤسس لجيل يتربى على الورع وحب العدالة. أما الأجواء العاشورائية فقد غرسَت فيه موقفاً صلباً من الظلم، ونشرت في كيانه إحساساً مبكراً بالمسؤولية الأخلاقية.
قرية أبو جميل… طفولة على ضفاف الهور
ولد عكاب يوم  1 تموز 1942  في قرية  أبو جميل  على حافة هور الحمار، في بيئة ريفية غارقة بالخضرة والماء، حيث تمتد غابات القصب والبردي وتتناثر حقول الرز “الشلب” التي شكّلت جزءاً من حياته اليومية. هناك، في تلك الطبيعة العميقة، نشأ الطفل الذي سيصبح لاحقاً واحداً من أبرز كتّاب الذاكرة العراقية.
رحلة التعليم… الصبي الذي سبق عمره
كان التعليم بالنسبة إليه رحلة مبكرة، فقد تعلم القراءة والكتابة على يد الملا  كاظم  قبل دخوله المدرسة، وحفظ قصيدة حافظ إبراهيم  قد راعَ صاحب كسرى  عن ظهر قلب، وأنهى ختم القرآن وهو صبي صغير. وعندما دخل الصف الأول، كان متفوقاً على أقرانه، يكتب بطلاقة ويقرأ كمن سبق سنواته.
العائلة بعد اليُتم… وجوه صنعت الصلابة
وعن العائلة، يتوقف عكاب مليّاً. فوالدته – رحمها الله – كانت السند الأول، زارته في السجون حين مرّ بظروف صعبة، وكانت شقيقته الحاجة أم مصطفى أمّاً أخرى بعد وفاة الأم. ويتذكر أخاه الحاج رسول الذي تشارك معه مرارة اليتم، وابن خاله مزهر الحاج عبد كسار، رمز العائلة وعمودها، ثم يذكر أسرته الصغيرة اليوم: زوجته الخبيرة المكتبية ثناء عبد الجبار، وولده شاهين، وابنته الدكتورة شهد، وأحفاده الذين يضيئون أيامه.
وفاة الأب، دور الأم، الأخ، الخال، ومسار التشكل العائلي.
رحلة الطفولة لم تخلُ من الألم. ففي عام 1955، وبينما كان والده يعد القهوة في المضيف، فاجأته نوبة قلبية أنهت حياته. كانت لحظة مفصلية في عمر الصبي الذي وجد نفسه فجأة يتيماً، يتنقل بين بيت أخيه وبيت خاله، ويتعلّم كيف يكون صلباً رغم هشاشة العمر.
تميز عكاب بين أقرانه، وتفوّق في الدراسة، لكنه ظل قريباً من الأرض التي تربى عليها. شارك في زراعة الشلب، وحمل من العمل الريفي قوة الشخصية وصلابة الإرادة. وفي المدرسة الابتدائية، شغله حب القراءة أكثر من أي شيء آخر، وعُيّن معاوناً لأمين مكتبة المدرسة، وهناك قرأ أول كتبه الفلسفية والتاريخية، ومنها *فلسفة التربية* لمحمد فاضل الجمالي، ومجموعة واسعة من كتب الأدب.
من الشعر إلى النثر… تحولات الموهبة الأولى
أما الموهبة الأدبية فقد كانت مزيجاً بين الوراثة والاكتساب. فالعائلة تجيد الشعر الشعبي، والهوسات والأبوذيات جزء من يومياتها. وعن طريق أستاذه **خضير عباس الحداد  تعرّف عكاب على الشاعر الكبير  مصطفى جمال الدين  الذي احتضن محاولاته الأولى، وصاغ إحدى قصائده المدرسية بلغة شاعر ناضج، مما أعطاه دفعاً كبيراً… لكنه دفع قاسٍ لاحقاً. إذ حين عرض قصيدته الثالثة على الشاعر  سالم الحسون  في متوسطة سوق الشيوخ، وجد نفسه أمام نقد صريح أعاده إلى الأرض: يجب أن تبدأ من الشاطئ لا من العمق. وكانت تلك اللحظة بداية انتقاله من الشعر إلى النثر، حيث سيجد نفسه لاحقاً.
في المدرسة صدرت مجلة صوت الكرمة، وكانت بداياته الحقيقية في الكتابة. نشر فيها أولى قصائده، وتجددت محاولاته في العدد الثاني، لكن مسار الشعر لم يستمر طويلاً. ومع ذلك ظل أثر الشاعر مصطفى جمال الدين محفوراً في ذاكرته، باعتباره المعلم الأول الذي رأى فيه بذرة الكاتب قبل أن يكتمل شكلها.
هكذا تمضي سيرة عكاب سالم الطاهر: طفولة ريفية، يتيم مبكر، قارئ نهم، وريث لأسرة شعرية، وتلميذ لمكتبات المدارس الريفية التي صنعت عقله، قبل أن يصبح لاحقاً مؤرخاً وباحثاً وصحفياً معروفاً.
إنها سيرة رجل من زمن آخر… رجل ما زال يؤمن أن الورق يحفظ الذاكرة، وأن الإنسان لا يكتمل إلا بانتمائه إلى المكان الأول: سوق الشيوخ، المدينة التي تتنفس شعراً .
 


تابعنا على
تصميم وتطوير