رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
ماذا علينا أن نفعل ؟


المشاهدات 1264
تاريخ الإضافة 2025/12/01 - 10:00 PM
آخر تحديث 2025/12/03 - 6:25 PM

الكتاب المقدس - إنجيل لوقا 10:3-20
وسألَهُ الجُموعُ: «ماذا نَعمَلُ؟» أجابَهُم: «مَنْ كانَ لَهُ ثَوبانِ، فلْيُعطِ مَنْ لا ثوبَ لَه. ومَنْ عِندَهُ طعامٌ، فلْيُشارِكْ فيهِ الآخرينَ». وجاءَ بَعضُ جُباةِ الضّرائبِ ليتَعَمّدوا، فقالوا لَهُ: «يا مُعَلّمُ، ماذا نَعمَلُ؟» فقالَ لهُم: «لا تَجْمَعوا مِنَ الضّرائبِ أكثَرَ ممّا فُرِضَ لكُم». وسألَهُ بَعضُ الجُنودِ: «ونَحنُ، ماذا نَعمَلُ؟» فقالَ لهُم: «لا تَظلِموا أحدًا، ولا تَشُوا بأحدٍ، واَقنَعوا بأُجورِكُم». وكانَ النّاسُ ينتَظِرونَ المَسيحَ، وهُم يَسألونَ أنفسَهُم عَنْ يوحنّا: «هل هوَ المَسيحُ؟» فقالَ لهُم يوحنّا: «أنا أُعمّدُكُم بالماءِ، ويَجيءُ الآنَ مَنْ هوَ أقوى مِنّي، وما أنا أهلٌ لأنْ أحُلّ رِباطَ حِذائِهِ، فيُعَمّدُكُم بالرّوحِ القُدُسِ والنّارِ، 

كتاب «فماذا علينا أن نفعل؟» (1886) هو تأمل اجتماعي– أخلاقي كتبه تولستوي بعد أزمة روحية عميقة، وفيه ينتقد بحدة الظلم الطبقي والفقر الحضري في موسكو، ويدعو إلى تحوّل أخلاقي فردي وجماعي يقوم على العمل اليدوي، الإحسان، ونبذ الأنانية والترف.
يرى تولستوي أن التقدّم المادي والمدني لا يمكن أن يُخفي الانحطاط الأخلاقي للمجتمع، وأن الخلاص لا يأتي من الدولة أو المؤسسات، بل من تغيير الضمير الفردي والعودة إلى بساطة العيش والعمل المنتج.
 المحاور الرئيسة: 
المحور الأول: صدمة الفقر في موسكو
بعد نجاح رواياته الكبرى، وجد تولستوي نفسه يعيش حياة مترفة في موسكو. لكنه بدأ يشعر بتناقض حاد بين الثراء الشخصي والمعاناة الاجتماعية المحيطة به. في بداية الكتاب، يصف مشاهد واقعية للفقراء الذين يفترشون الطرقات: الأطفال الجياع، العمال المهاجرين، النساء اللاتي يبعن أنفسهن للبقاء على قيد الحياة.
الحدث المحوري: يروي تولستوي زيارته إلى مأوى للفقراء، حيث حاول أن يقدّم المساعدة لكنه صُدم بعدم فاعلية الإحسان الفردي. فقد أدرك أن كل صدقة لا تغيّر البنية التي تنتج الفقر.
تحليل تولستوي: الفقر ليس ظاهرة عرضية، بل نتيجة نظام اجتماعي قائم على الاستغلال. الأغنياء لا يدركون أن ترفهم يُبنى على عرق الفقراء.
فكرة مركزية: كل رغبة في الراحة والترف عند الطبقة العليا تؤدي بالضرورة إلى تعميق البؤس عند الطبقات الدنيا.
أثر هذا المحور: بداية تحوّل تولستوي من الروائي إلى المصلح الأخلاقي؛ هنا بدأ وعيه بما يمكن تسميته بـ«المسألة الاجتماعية» قبل أن تتبلور في الفكر الماركسي الروسي.
المحور الثاني: نقد الزيف الأخلاقي للمجتمع الراقي
ينتقل تولستوي من الوصف إلى النقد الفلسفي:
يرى أن المجتمع الأرستقراطي يعيش في نظام أخلاقي مقلوب؛ حيث تُعتبر الراحة والثراء فضيلة، والعمل اليدوي عارًا.
ينتقد الطبقة المثقفة التي تبرّر هذا التفاوت باسم التقدّم أو «الذوق» أو «التمدّن».
مفارقة لاذعة: عندما يحاول الأغنياء «مساعدة الفقراء»، فإنهم في الواقع يرسّخون وضعهم كأوصياء، فيتحوّل العطاء إلى أداة للهيمنة الرمزية.
تولستوي هنا يقترب من ما يسميه بيير بورديو لاحقًا “العنف الرمزي”: حيث تمارس الطبقة العليا سيطرتها الأخلاقية عبر “الإحسان”.
الخلاصة الفكرية: لا يمكن للإنسان أن يكون فاضلًا وهو يعيش على استغلال الآخرين، مهما كانت نواياه حسنة.
الموقف الجذري: يدعو إلى إلغاء كل مظاهر الترف لأنها تقوم على سرقة عمل الآخرين.
السياق الشخصي: في هذه المرحلة بدأ تولستوي بالفعل بارتداء ملابس الفلاحين، والعمل بيديه، ومشاركة العمال أعمالهم في الحقل، كممارسة رمزية لتكفير الذات.
المحور الثالث: فشل الإصلاحات والمؤسسات الدينية
هنا يظهر الجانب الأكثر راديكالية في فكر تولستوي:
ينتقد الكنيسة الأرثوذكسية لأنها تحالفت مع الدولة والنظام الطبقي، وتخلت عن رسالة المسيح الأصلية.
يهاجم رجال الدين الذين يعيشون في الرفاهية بينما  يوعظون الفقراء بالصبر والطاعة.
يرى أن التعليم، الجيش، والبيروقراطية أدوات لإدامة   الخضوع وليس للتحرر.
 المفارقة التي يكشفها: المؤسسات التي تزعم إصلاح المجتمع (الكنيسة، الدولة، المدارس الخيرية) هي نفسها مصدر العطب الأخلاقي.
تحليل لاهوتي فلسفي:
يقول تولستوي إن المسيحية الأصلية كانت دعوة إلى المساواة والعمل اليدوي والمحبة الصادقة، لكنها تحوّلت إلى دين رسمي يحمي الأغنياء.
موقفه الجذري: الخلاص لا يأتي من العقيدة أو الطقوس، بل من الممارسة الأخلاقية اليومية.
نتيجة فكرية: بهذا الموقف، بدأ تولستوي مسيرته نحو ما يُعرف بـ«المسيحية اللاكنسية» أو «الإنجيلية الأخلاقية»، التي رفضت السلطة الدينية وركّزت على الضمير الإنساني.
المحور الرابع: طريق الخلاص الفردي
في هذا الجزء، يتخذ الكتاب طابعًا تأمليًا – روحيًا. تولستوي لا يدعو إلى ثورة سياسية، بل إلى ثورة في النفس. يرى أن المشكلة ليست فقط في النظام، بل في الإنسان الذي يقبل العيش في رفاه على حساب الآخرين.
يقترح ثلاثة مبادئ للخلاص:
البساطة الطوعية: التخلّي عن الكماليات والعيش على الضروري فقط.
العمل اليدوي: المشاركة الفعلية في إنتاج الحياة اليومية.
المشاركة الوجدانية: معاناة الفقراء ليست مادة للشفقة، بل تجربة يجب مشاركتها.
تأثير هذا الفكر:
تولستوي يرى أن التغيير الأخلاقي الفردي يمكن أن يُحدث تغييرًا جماعيًا بالتدريج، لأنه يخلق   نموذجًا يُحتذى به.
البعد الروحي: العمل ليس مجرد واجب اقتصادي بل صلاة جسدية، يجمع بين الجسد والروح.
الغاية النهائية: العودة إلى إنسانية بدائية متصالحة مع الطبيعة ومع الآخر، بلا وسائط أو مؤسسات فاسدة.
المحور الخامس: العمل اليدوي كواجب أخلاقي
هذا المحور يُعد ذروة الكتاب، وفيه يقدم تولستوي فلسفته الخاصة في العمل:
العمل ليس ضرورة اقتصادية بل واجب أخلاقي وروحي.
يرى أن الانقسام بين من يعملون بأيديهم ومن يستهلكون فقط هو جوهر الاستغلال الطبقي.
يقترح نموذج المجتمع الذي يعيش فيه الجميع على ثمرة عملهم الشخصي دون استعباد أحد.
رمزية العمل: عند تولستوي، الحرث والخياطة والبناء ليست مجرد أعمال بل رموز للاتحاد مع الطبيعة والإخلاص للذات.
البعد الأنثروبولوجي:
الإنسان لا يتحقق إلا عبر عمله، والترف يُضعف الطاقة الأخلاقية لأنه يفصل الإنسان عن الواقع الحيّ.
موقفه من الصناعة: لم يكن ضد التقنية في حد ذاتها، بل ضد النظام الذي يجعلها وسيلة لاستعباد العمال.
الغاية الأخلاقية: العمل يُطهّر الإنسان من الأنانية، ويعيد له إحساسه بالعدالة والتكافؤ.
خلاصة المحاور 
من خلال هذه المحاور، يتحوّل كتاب «فماذا علينا أن نفعل؟» من نصّ اجتماعي إلى بيان فلسفي–روحي يطرح بديلًا جذريًا للحداثة الغربية:
 بدلاً من التقدّم الصناعي، يقترح تولستوي التقدّم الأخلاقي.
بدلاً من الثورة السياسية، يقترح الثورة في الضمير.
بدلاً من الرأسمالية، يقترح المجتمع القائم على البساطة والعمل المشترك.
بهذا المعنى، يمكن اعتبار الكتاب جسرًا بين الفكر المسيحي الأخلاقي وفلسفات التحرر الإنساني الحديثة (الاشتراكية الأخلاقية، اللاعنف الغاندوي، الوجودية الدينية).


تابعنا على
تصميم وتطوير