رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
هل يشتعل الكاريبي؟


المشاهدات 1153
تاريخ الإضافة 2025/11/26 - 9:09 PM
آخر تحديث 2025/11/27 - 8:07 PM

في الكاريبي كل شيء يبدو هادئا على السطح، لكن هذا الهدوء اشبه بجدار الوهم  يخفي خلفه توترا متصاعدا لا يدركه سوى من يتابع الوضع عن كثب. خلال الأشهر الأخيرة تصاعدت مؤشرات التوتر بين الولايات المتحدة وفنزويلا على نحو يعيد للأذهان ذكريات حرب اجتياح العراق عام 2003، حين هيأت واشنطن حشدا ضخمًا انتهى باجتياح العراق. واليوم تبدو المنطقة على أعتاب مشهد مشابه في بعض ملامحه، ومختلف في ظروفه الدولية والسياسية.
الوجود العسكري الأميركي في الكاريبي ليس معلنا بصفة الحرب، لكنه يحمل رسالة لا تخطؤها العين. الفارق أن واشنطن تتحرك الآن ببطء، وتختبئ خلف خطاب فضفاض تغطي ملامحها مكافحة المخدرات وحماية الأمن الإقليمي، بدلًا من الخطاب الحاسم الذي استخدمته في العراق تحت شعار أسلحة الدمار الشامل. لكن المبررات لا تجد صداها في الداخل الأميركي؛ فاستطلاع شبكة CBS كشف أن 75 % من الأميركيين يعارضون أي خيار عسكري ضد فنزويلا، وأن 76 % يشككون في رواية استهداف القوارب التي قالت واشنطن إن على متنها مهربون للممنوعات. الأرقام بحد ذاتها تقول إن الشارع الأميركي سئم الحروب ولا يريد تكرار أخطاء العقدين الماضيين.
لكن خلف الستار تتجلى أسباب أعمق من حجة “المخدرات”. فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، وامتلاكها حرية التصرف في طاقتها قد يربك حسابات واشنطن الاقتصادية. كما أن تحالفاتها مع الصين وروسيا وكوبا تجعلها نقطة تماس مباشرة بين محورين عالميين، وهو أمر لا تتحمله الولايات المتحدة في حديقتها الخلفية. إلى جانب ذلك، تلعب السياسة الداخلية دورا لا يقل أهمية؛ فالمعارضة الفنزويلية (ماريا كورينا ماتشادو) التي تتصدرها الموثق المضاد للنظام القائم هناك ، والتي مُنحت جائزة نوبل للسلام وقدّمتها لترامب بطريقة أثارت جدلًا واسعًا، تجد نفسها في معادلة محرجة. فهي لا تستطيع رفض الدعم الأميركي، ولا تستطيع في الوقت نفسه الدفاع علنا عن أي تدخل عسكري قد يعصف بالبلاد.
الحديث عن سيناريو شبيه بالعراق يظل مثارا، لكنه اليوم أكثر تعقيدا. فالبيئة الدولية تغيّرت، والولايات المتحدة ليست في الموقع نفسه الذي كانت فيه عام 2003. والرأي العام الأميركي مرهق من الحروب الطويلة، والاقتصاد الداخلي مثقل بالتحديات، وواشنطن موزعة بين ملفات الصين وأوكرانيا والشرق الأوسط. أي عملية عسكرية واسعة ضد فنزويلا ستكون مغامرة مكلفة وغير مضمونة، وربما يتجاوز أثرها حدود المنطقة.
السؤال الأهم ليس ما إذا كانت واشنطن قادرة على إسقاط مادورو، بل ماذا سيحدث بعد ذلك. التجارب المريرة في العراق وليبيا أثبتت أن إسقاط رأس النظام لا يعني استقرار البلاد ولا نهاية المهمة، وأن الفراغ السياسي قد يفتح الباب لصراعات داخلية وتدخلات أجنبية وانهيار اقتصادي طويل المدى. وفنزويلا تقع على مرمى حجر. ليس كما العراق او افغانستان. وأي توترٍ فيها  من السهل  أن يلقي بظله على الولايات المتحدة  ولاسيما أنها  المتسبب الأول في هذه الفوضى. فنزويلا هذه الدولة الغنية بمواردها والهشة باقتصادها، قد تكون مثالا جديا لهذا المسار إن فتح الباب أمام اثارة الاضطراب فيها.
كما انه في حال اندلاع مواجهة أو حتى تصعيد محدود، ستتأثر أسواق النفط بلا شك. فنزويلا ليست دولة هامشية في سوق الطاقة، بل خزان نفطي ضخم يمكن لأي اضطراب فيه أن يدفع الأسعار إلى مستويات غير محسوبة، خصوصا في ظل هشاشة السوق بسبب الحرب في أوكرانيا والتوترات في الشرق الأوسط. وأي شرارة في الكاريبي قد تتحول إلى موجة ارتفاع عالمية في الأسعار تذكّر بأزمات 2008.
وهكذا تقف المنطقة أمام هدوء يزداد ثقلاً يوما بعد يوم، وكأن الجميع ينتظر حركة خاطئة أو حادثًا صغيرًا قد يقلب المشهد. واشنطن تختبر خياراتها، وكاراكاس ترفع سقف خطابها، والمعارضة تمشي على حبل مشدود بين الداخل والخارج. والكاريبي صامت، لكن هذا الصمت لم يعد مطمئنا؛ فهو صمت يشي بأن شيئا ما يوشك أن يحدث، وأن الشرارة ربما أقرب مما نتصور.


تابعنا على
تصميم وتطوير