رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
علي عزّت بيغوفيتش يهرب إلى الحرية ....شعلة سراييفو الأبدية .. قاتلنا لكي لا نبقى عبيداً


المشاهدات 1155
تاريخ الإضافة 2025/11/26 - 9:00 PM
آخر تحديث 2025/11/27 - 8:07 PM

 سراييفو مدينة مولعة بالتاريخ، في كل حي من أحيائها القديمة، وعند كل منعطف شارع، لابد من وجود ذكرى لحكاية مقاومة، أو مأساة حدثت خلال التاريخ الدموي الطويل لهذه المدينة التي كانت سبباً في اندلاع الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من مآسي الاحتلال النازي، ثم حقبة الحكم الشيوعي أيام جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية، وصولاً إلى تفكك الإتحاد في حقبة التسعينيات بعد زوال الاتحاد السوفيتي وانتهاء سطوته على دول أوروبا الشرقية التابعة لمعسكره الشيوعي.
عند نهاية شارع فرهاديا الشهير في قلب سراييفو القديمة، يقف الزائر متأملاً أمام مشهدٍ تختلط فيه ذاكرة الحرب برائحة السلام. إنه لهب سراييفو الأبدي، تلك الشعلة التي لم تنطفئ منذ إشعالها في السادس من نيسان/ أبريل عام 1946، في الذكرى الأولى لتحرير المدينة من الاحتلال النازي إبّان الحرب العالمية الثانية. يقع النصب في بوابة حجرية ضخمة تابعة لمبنى تاريخي على الطريق الواصل بين شارع مارشال تيتو والمدينة القديمة. وتعلو الشعلةَ كتاباتٌ محفورة في الحجر بلغة البوسنة والهرسك تُخلِّد ذكرى المقاتلين والمدنيين الذين سقطوا في سبيل الحرية: «بشجاعةٍ ودماءٍ مشتركةٍ أُريقت من قِبل مقاتلي ألوية البوسنة والهرسك، والكروات، والجبل الأسود، والصرب، في الجيش اليوغوسلافي المجيد، وبالجهود المشتركة وتضحيات الوطنيين السرايفويين ـ من الصرب والمسلمين والكروات ـ تم تحرير سراييفو، العاصمة الرئيسية لجمهورية بوسنة والهرسك الشعبية، في السادس من أبريل عام 1945».
ومن يتأمل النصب يدرك أنّ هذه المدينة لم تخرج من رحم التاريخ عبثاً. فهي التي انطلقت منها شرارة الحرب العالمية الأولى باغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية- المجرية عام 1914، وهي التي عانت من الحروب اليوغسلافية في التسعينيات، وتحمّلت حصاراً دام أكثر من ألف يوم. إنّ كل حجرٍ في سراييفو يحمل قصة بقاءٍ لا تُنسى. وإن كانت هذه الشعلة قد أُوقدت لذكرى شهداء الحرب العالمية الثانية، فإنها اليوم تخاطب ذاكرة الحصار الحديث، وتذكِّر الأجيال بأنّ المدينة التي قاومت مرتين قادرة على النهوض دائماً. ويًعدّ المكان نقطة توقفٍ رئيسة للزوار والسائحين. يقف الناس بصمتٍ أمام الشعلة، يلتقط بعضهم الصور، ويقرأ الآخرون النص كاملاً، غير أنّ الجميع يشعر بشيء يتجاوز المشهد : خشوعٌ أمام معنى التضحية، ومهابةٌ حيال تاريخٍ كُتب بالدم والصبر. حتى الأبنية المحيطة بالنصب تحمل آثار الزمن، فشقوقٌ وتصدعاتٌ في الحجر تروي قصة قنابل ورصاص مرّ من هنا يوماً، لكنهُ لم يُطفئ الروح، ولم يمنع الحياة من أن تنبض مجدداً في شارع فرهاديا، المكتظ اليوم بالمحلات والمقاهي والسياح.  ولأنّ النصب يقع في نقطة مفصلية بين المدينة القديمة وطابع سراييفو النمساوي- المجري الحديث، يصبح المشهد تجسيداً لعلاقة فريدة بين ماضي البلقان العثماني وتراثه الأوروبي، وبين الذاكرة المعمارية والذاكرة الوطنية. 
إنّ لهب سراييفو الأبدي ليس مجرد نار تتّقد في وعاء رخامي أخضر، بل هو نور يُبقي ذاكرة الحرية حية، ويهمس لكل عابر سبيل: هنا سقط رجال ونساء كي تستمر المدينة، وتظلُ أبوابها مفتوحة على الحياة، بفضل بطولة أبنائها من الصرب والمسلمين البوشناق والكروات، يوم كانوا شعباً واحداً يقاوم الاحتلال النازي جنباً إلى جنب، قبل أن تمزقهم حرب التسعينيات . 
عند قبر أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك
إحدى اللحظات الأكثر تأثيراً في زيارتي إلى سراييفو خلال شهر حزيران/ يونيو الماضي، كانت وقوفي في مقبرة الشهداء. ذلك المكان الأبيض الصامت الذي يطلّ من سفوح التلال على المدينة، حارساً ذاكرتها الجريحة، ومجّدداً ذكرى أبنائها الذين دفعوا أرواحهم أو كرّسوا حياتهم ثمناً لحريتها، وفي مقدمتهم علي عزّت بيغوفيتش، أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك المستقلة، ورمز نهضتها الفكرية والسياسية والروحية. وصانع هويتها الإسلامية .
 عند مدخل المقبرة، تلفت الأنظار تلك القبة الحجرية البيضاء المفتوحة للضوء الذي ينساب بسكينة إلى القبور المحيطة، وتقف الأعمدة الحجرية شامخة مثل حرس قديم، في حين تصطف شواهد القبور البيض في صفوف طويلة تشبه جيشاً صامتاً لا يزال يؤدي واجبه الأخير في حماية الوطن من النسيان. المكان مهيب، تغمره روح التصوف العذبة والسكينة الجبلية التي تشتهر بها سراييفو: نسيمٌ عليل، وخضرةٌ تتسلل بين القبور، وطيورٌ تحلّق فوق رؤوس الزائرين، وأصواتٌ خافتة لخطواتٍ تائهة بين الذاكرة والخلود. وفي قلب هذا الصمت الخاشع يقع قبر علي عزّت بيغوفيتش، وقد خُطّ عليه اسمه بالعربية والبوسنية، وهو القائد الذي جمع بين الفلسفة والجهاد، وبين الفكر الحر والإيمان العميق، بين واقعية السياسة وأخلاق الفرسان. وتعلو القبر عبارةٌ عربية منقوشة بخط جميل، شاهدةً على الهوية الإسلامية العميقة للرجل وللأرض التي أحبّها ودافع عنها حتى الرمق الأخير.  في خاتمة كتابه «هروبي إلى الحرية.. أوراق السجن 1983- 1988»، الذي ضمّنه ملخصات فكرية وثقافية وسياسية وأدبية لقراءاته خلال السنوات التي قضاها سجيناً، ينشر عزّت بيغوفيتش الرسائل التي كان يتلقاها من أولاده: « وكانت تلك أياماً ينتظرني فيها ما يقارب 13 عاماً من السجن،  وعندما كان الموت هو الأمل الوحيد. أخفيتُ هذا الأمل بداخلي مثل سرّ كبير لا يعرفه أحد غيري، ولا يستطيعون هم تجريدي منه. إذا كان الأدب هو هروبي الثقافي من ذلك السجن إلى الحرية، فإن هروبي العاطفي كان في تلك الرسائل. لست متأكداً بأن أولادي يعرفون، أو أنهم سيعرفون يوماً، ماذا عنت تلك الرسائل بالنسبة لي . كنت أشعر، في اللحظات التي أقرؤها فيها، أنني لست إنساناً حراً وحسب، وإنما إنسان أهداه الله كل خيرات هذه الدنيا». 
ما بين حجارة المقبرة البيضاء والبيوت العتيقة المحيطة بالمكان، تدرك أن سراييفو لا تنتمي إلى الماضي فحسب، بل تحمل جراحها كوسام، وتروي قصتها بصمت وهدوء ودموع. هي مدينة تتقاطع فيها المآذن مع أبراج الكنائس، وتلتقي فيها أرواح المقاتلين من كل الديانات الذين دافعوا عنها في معركة الحرية الطويلة المضمخة بالدماء والتضحيات. قاتلوا في سفح واحد، وعلى جبل واحد، وتحت سماء واحدة تظلل قبورهم. وعلى شاهدة قبر بيغوفيتش، نُقش على الحجر الأبيض نص بالبوسنية: «مقاتل عظيم من أجل الحرية. لكي لا نبقى عبيداً».  حين اندلعت حرب البوسنة الرهيبة 1992 – 1995، وجد الشعب البوسني في علي عزّت بيغوفيتش زعيماً يوحّد صفوفه، فقاد المقاومة السياسية والعسكرية ضد العدوان على بلاده، ودافع عن هويتها الإسلامية الأوروبية في آن واحد. 
كان يؤمن بأن الإسلام في البوسنة ليس غريباً عن أوروبا، بل هو جزء من تراثها الحضاري والروحي. وعندما أصدر عام 1970 كتابه «الإعلان الإسلامي»، لم يكن يقدّم بياناً سياسياً بقدر ما كان يضع مشروعاً حضارياً وأخلاقياً يرسم ملامح نهضة إسلامية أوروبية الجذور والمعالم. فقد جاء الكتاب ثمرة تجربة فكرية وروحية لمفكر عاش في الوسط الأوروبي، وواجه تحديات الحداثة الغربية، والاشتراكية اليوغوسلافية، والتاريخ العثماني، والانشقاقات الدينية والقومية في البلقان. لذلك ظهر « الإعلان « وثيقةً تأسيسية تبحث في المعنى الإنساني للإسلام بوصفه ديناً للحرية والعدل، لا مشروعاً للهيمنة أو الإقصاء.
المشكلة ليس في الإسلام بل في المسلمين
يبدأ بيغوفيتش كتابه بالتأكيد على أن الإسلام ليس مجرد شعائر أو عقائد مجردة، بل هو رؤية شاملة للإنسان والعالم تجمع بين المادة والروح، وبين الإيمان والعمل، وبين الفرد والمجتمع. ويستخدم مفردته الشهيرة « الوحدة الثنائية « ليعبّر عن هذا التوازن الذي يميز الإسلام ويجعله حضارة وسطاً، قادراً على نقد المادية الغربية من دون أن يسقط في الروحانية السلبية أو الانعزال. ومن الركائز التي شدّد عليها فكرة الحرية باعتبارها جوهر الوجود الإنساني. فالعبودية لله وحده هي، في نظره، طريق التحرر من كل أشكال الاستبداد السياسي والفكري. 
ويذهب إلى أن أي مجتمع إسلامي حقيقي يجب أن يقوم على احترام الحريات الفردية، وكرامة الإنسان، وسيادة القانون، ومشاركة المواطنين في الشأن العام. ومن هنا يرفض بصورة قاطعة الربط الذي حاول خصومه أن يقيموه بين الإسلام والاستبداد، ويرى أن الغرب هو الذي تورّط تاريخياً في نظم شمولية وديكتاتوريات، بينما يقدّم الإسلام نموذجاً أرقى للعدالة الاجتماعية والتكافل الإنساني. 
ويتوقف بيغوفيتش عند مفهوم الثقافة الإسلامية، معتبراً أن أي مشروع نهضوي لا يقوم على الثقافة سيكون أجوف ولا يمكن أن يعيش طويلاً. فالثقافة، في تعريفه، هي ثمرة الإنسان الحر المبدع، وهي التي تمنح المجتمع روحه وهويته. ويرى أن الإسلام قدّم عبر التاريخ نموذجاً فريداً لثقافة عالمية مفتوحة، تمزج بين العقلانية اليونانية، والروحانية الشرقية، والفقه العربي، وتنتج في النهاية حضارة إنسانية لا تخص العرب وحدهم، بل كل الشعوب التي دخلت في الإسلام، ومنها شعوب البلقان. كما ينتقد محاولات اختزال الإسلام في مجرد أحكام فقهية أو مؤسسات دينية شكلية. فالإسلام، كما يراه، ثورة أخلاقية قبل أن يكون نظاماً سياسياً. ومن هنا يؤكد على ضرورة إصلاح المسلم قبل إصلاح الدولة، لأن الدولة الصالحة هي نتيجة طبيعية لأفراد أحرار ومسؤولين. ويكتب بصراحة «المشكلة ليست في الإسلام، بل في المسلمين»، ويطالب بعودة الروح الأخلاقية، وإحياء قيم العمل والصدق والانضباط والمسؤولية. 
ذكريات الألعاب الأولمبية 
إن زرتَ سراييفو فلابدّ لك من جولة إلى الجبال المحيطة بها، تلك التي تمنحها طابعاً فريداً يجمع بين جمال الطبيعة وعذوبة الذكريات. ومن أبرز هذه الجبال بييلاشنيتسا وإيغمان وتريبيفتش وياهورينا. وفي صباح مشرق اصطحبني رفيق رحلتي أيمن بسيارته صعوداً إلى جبلي إيغمان وتريبيفتش، اللذين احتضنا - مع جبل بييلاشنيتسا - جانباً كبيراً من فعاليات دورة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 1984، وكانت سراييفو آنذاك أول مدينة في دولة يوغوسلافيا السابقة تستضيف حدثاً رياضياً عالمياً بهذا الحجم. وما تزال مواقع الألعاب الأولمبية قائمة إلى اليوم، شاهدة على لحظة تاريخية جمعت بين الرياضة وجمال الطبيعة البوسنية، إذ تتحول المدينة في الشتاء إلى وادٍ أبيض يزدان بالغابات الكثيفة والمنحدرات الثلجية. ومن أبرز المنافسات التي شهدتها تلك الدورة سباقات الانحدار السريع التي لفتت أنظار العالم، وتألق فرق التزلج على الجليد، فضلاً عن التنظيم المميز الذي أشاد به الرياضيون. وماتزال ذكريات الألعاب الشتوية ماثلة في الشواهد المنتشرة على قمم الجبال، ومنها نصب الحلقات الأولمبية المتشابكة الملونة التي تمثل القارات المأهولة الخمس، وبقايا مضمار سباق الزلاجات الأولمبي، إضافة إلى الشاشات الكبيرة التي تعرض باستمرار لقطات ومشاهد من تلك الدورة. 
وبإمكان السائح أيضاً الوصول إلى قمة الجبل المطل على سراييفو والتمتع بجمال الطبيعة باستخدام التلفريك الذي أفتتح لأول مرة عام 1959، لكنه تعرض للتدمير خلال حصار المدينة في التسعينيات. وبعد سنوات طويلة من الانتظار، أعيد افتتاحه عام 1918  ليكون واحداً من أبرز المعالم السياحية في المدينة.


تابعنا على
تصميم وتطوير