
تقرير / سمير السعد
في قلب ميسان، حيث تختلط مياه دجلة بذاكرة الناس، تتوارث الطوائف عاداتها وتعايشها منذ قرون. هناك، في مدينةٍ عُرفت بأنها “عاصمة السلام الهادئ بين المكوّنات”، يتكشّف اليوم مشهد مؤلم تتصدّره مقبرة الصابئة في ناحية المشرح، التي يزيد عمرها على ثلاثة قرون، لكنها تُواجه اليوم خطر الاندثار بسبب الإهمال واعتداءات السيارات.
في مدينةٍ اعتادت أن تحتضن الاختلاف كما يحتضن النهر جريانه، تعود أسئلة المظلومية القديمة لتطرق الأبواب من جديد. بين ضفاف ميسان، حيث عاش الصابئة المندائيون مع الشيعة وسائر الطوائف بسلام طويل، تتجلى اليوم أزمة تهدد إرثهم، بينما يكافح المتبقّون منهم ــ وعددهم لا يتجاوز 1300 شخص بحسب رئيس الطائفة في ميسان ناظم عودة ــ للحفاظ على آثار آبائهم وأسماء أجدادهم المنقوشة على حجارة القبور.
اتهامات بلا دليل… والصابئة خارج دائرة السحر
يقول الباحث والصحفي المتخصص بشؤون المكونات « مهدي الساعدي « إن ربط الصابئة بالسحر “مجرد وهم شعبي لا يسنده التاريخ”. ويضيف في تصريح خاص لنا ، إن بحثه الطويل في المصادر والدراسات الميدانية “لم يقدم دليلاً واحداً يثبت صحة تلك التهمة، بل إن المشعوذين أنفسهم يستغلون المقابر المهجورة، وغالباً ما تكون مقابر الصابئة قريبة من المدن وخالية من الزائرين، ما يجعلها هدفاً سهلاً لأعمال الشعوذة”.
مقبرة عمرها 300 عام… لكن بلا سياج!
في ناحية المشرح تحديداً ، شرق العمارة بـ3 كيلومترات، تمتد واحدة من أقدم مقابر الطائفة على مساحة 7 دوانم. ورغم تاريخها العريق، صارت القبور تتعرض للصدمات المتكررة من السيارات بعد أن فتحت الحكومة المحلية شارعاً ملاصقاً لها.
مسؤول المقبرة وسام الزهيري يقول:
“نطالب بإعادة الشارع إلى مكانه القديم بأسرع وقت ممكن . القبور تتعرض للتخريب يومياً، ونخشى أن نفقد ما تبقى من ذاكرة الطائفة”.
ويضيف:
“تسييج المقبرة بات ضرورة ملحّة، فهي ليست مجرد حجارة… إنها تاريخ أجدادنا”.
حياة على ضفاف النهر… وصناعات تشبه النقاء
تواجد الصابئة في ميسان لم يكن طارئاً، فهم أبناء النهر، يسكنون قرب ضفافه من السلام إلى الميمونة، ومن العزيز إلى قلعة الصالح، بينما يُشكّل المشرح المركز الأكبر لهم.
يمتهن أغلبهم صناعة الزوارق (البلم )، وصيد الأسماك، والحرف الخشبية المرتبطة بالأدوات الزراعية. وفي مركز العمارة، يبرز عدد منهم في صياغة الذهب، إضافة إلى حضور واضح في الوظائف الإدارية والقطاع الحكومي مع تمثيل لهم في مجلس النواب العراقي عبر “الكوتة”.
جولة في آراء مواطنين… وجع مشترك وحلم واحد
المواطن علي مطر ، موظف حكومي، يقول:
“الصابئة أهل هذه الأرض مثلنا تماماً. ما يحصل لمقابرهم غير مقبول لنا جميعاً، للمحافظة ولتاريخها”.
أما ابو حمزة التميمي ، سائق مركبة، فيقول:
“الشارع ضيّق وقريب جداً من القبور. كثير من السائقين يتجنبون المرور خوفاً من الاصطدام… يجب إعادة تخطيط المنطقة”.
بينما يرى أحمد عبدالرزاق، من أهالي المشرح:
“ميسان كانت دائماً مثالاً للتعايش .
نريد حلاً يحفظ كرامة الأحياء والأموات”.
ميسان، التي احتضنت عبر تاريخها المسلمين والصابئة والمسيحيين، ما زالت تحافظ على صورتها كمدينة تعايش لا تهتز، لكن المشهد أمام مقبرة المشرح يضع الجميع أمام سؤال كبير:
هل يمكن لمدينة السلام أن تسمح لسيارة عابرة أن تهدم ذاكرة ثلاثة قرون؟
في النهاية، يبدو المشهد أكبر من حادثة سيارات، وأكثر عمقاً من مجرد شارع خاطئ. إنّه امتحان جديد لروح ميسان، تلك المدينة التي آمنت بأن أبناءها مهما اختلفت دياناتهم ينامون في النهاية تحت سماء واحدة.
ربما تكفي نظرة واحدة إلى نهر دجلة وهو يمر بجوار مقابر الصابئة ليذكّر الجميع بأن التعايش ليس شعاراً… بل حقّ يجب حمايته، كما تُحمى أرواح من رحلوا.