
بين الصمت والإنصات صلة عضوية، مَن يعجز عن الإنصات يعجز عن الصمت، ومَن يعجز عن الصمت يعجز عن الإنصات. أعرف بعض الأشخاص عندما تتحدث معهم لا يسمحون لك بإكمال حديثك في أية قضية تتكلم فيها، يعجزون عن الإنصات لغير أصواتهم. لو تكلمت معهم، سرعان ما ينتزعون الكلام منك، على الرغم من أنك لم تستوف ما تريد ايصاله بكلماتك، فيمتطون صهوة الكلام رغمًا عنك. لو حاولت الإصرار على التحدث، يضربون عن الكلام، إلا أنهم لحظة يضربون لا ينصتون، بل يغيبون ذهنيًا عنك، فتشعر أنهم غرقوا في منطقة ظلام، وكأنهم يمارسون نوعًا من عقابك بالإضراب عن الإنصات، لئلا تتجرأ على النطق بكلمة مستقبلًا في حضورهم.
مَن يتكلم بطريقة يحتكر فيها الكلام، من دون أن يسمح للمتلقي بالمشاركة، يضمر في داخله ضربًا من التسلط، وأن التكلم لا يليق إلا بمقامه، والإنصات يليق بمقام المستمع، الأستذة تليق بمقامه، والتلمذة تليق بمقام المستمِع. وهو نوع من استبداد الكلمة والعنف الرمزي، الذي يلغي أي شكل من أشكال التواصل والحوار بين المتكلم ومَن يجب عليه الإنصات له. الحوار لا يتحقق إلا في فضاء يتوزع فيه الكلام توزيعًا يحرر الذات من شعورها بالاستعلاء، ويمنح الآخر حق الإنصات وحق الكلام معًا.
الصمت يمكّن الانسان من الإنصات إلى الذات، بوصفة مقدمة ضرورية للإنصات للآخر، وإيقاظ طاقة الحياة الكامنة في ذاته، وتغذية روافد تصلب الإرادة، وتوكيد الثقة في الذات. الحوار أثرى فنون العيش المشترك، وإدارة شبكات المصالح، وحل المشكلات، وبناء التسويات حالة الخلافات، وترميم التصدعات في العلاقات الاجتماعية. الحوار يختلف عن إصدار الأوامر، والإملاء المفروض إكراهًا على المستمع. إرادة الحوار شرط التواصل، وبناء الثقة، واحترام أحد الطرفين للآخر. الإنصات شرط الحوار، لأنه يعني إعلان المساواة بين المتحدثَين، والتكافؤ في الحق في الحديث وإبداء الرأي. غياب الإنصات يعني غياب الحوار، وتحول كلام المتحدث إلى أوامرَ إنسان يفرض تسلطه على مَن يتحدث اليه، ويمتنع من الإنصات لما يقوله. التنكر لحق مَن تتحدث إليه بالحوار يعني التنكر للحق في الاختلاف، والتنكر للحق في الخطأ. الإنصات نافذة الحوار، الحوار أداة تمكّن المتحاوريَن من التعرف على الوجوه المتعددة للحقيقة. وجوه الحقيقة والطرق إليها متنوعة، النظرة الأحادية ترى وجهًا واحدًا للحقيقة، ومثل هذه النظرة تحتكر الحقيقة، ولا ترينا صورةَ الحقيقة بتنوع أبعادها ووجوهها. يحتاج اكتشاف الحقيقة التعرف على وجوهها المتنوعة، وذلك ما نراه بجلاء في تنوع زوايا نظر المتحاورين.
ينشأ اختلاف الشعوب في علاقتها بالكلام والصمت من رؤيتها للعالم، ومن حاجتها إلى المعنى، وفي مقدار ما تمنحه للوعي من فسحة يتنفس فيها بعيدًا عن ازدحام الأصوات. أخبرني أستاذ جامعي صديق عاش سنوات طويلة في ماليزيا، وتكونت لديه علاقات طيبة مع عائلات من أهل ذلك البلد، قال: «اطلعت على حياة بعض العوائل الماليزية من الداخل، فرأيت الزوج والزوجة ربما لا يتحدثان في كل ساعات اليوم إلا بكلمات قليلة لتأدية الاحتياجات الضرورية للحياة، وربما تمر ساعات عديدة دون أن يتفوه أحدهما بكلمة».
تشير بعض البيانات إلى أن العرب من أكثر الشعوب كلامًا وأقلها صمتًا، إذ يستهلكون وقتًا أطول في الكلام الهاتفي والمباشر مقارنةً بغيرهم. تذكر بعض الدراسات أن الانسان في الامريكيتين يتكلم في يومه ما يقارب سبعة آلاف كلمة، بينما يرتفع هذا الرقم في المجتمعات العربية؛ إذ تتكلم المرأة المصرية مثلًا في اليوم الواحد أكثر من أربع وعشرين ألف كلمة، وتتحدث المرأة الأوروبية بنحو عشرة آلاف كلمة، وتتلفّظ المرأة الآسيوية بنحو سبعة آلاف كلمة، وتتكلم المرأة الامريكية نحو أربعة آلاف كلمة فقط في اليوم. يشي هذا الفارق بأن المجتمعات التي تسرف في الكلام تهدر وقتًا كان يمكن أن يتحول إلى فعل وإنجاز، مضافًا إلى أنها تنقطع عن السكينة التي يحتاجها كل إنسان ليعيد بناء انسجام وتماسك ذاته.
يستريح الإنسان في الصمت لأنه يعيد ترميم ما تصدع في الذات، ويغدو الصمت موردًا لبناء الوعي في المجتمعات التي تحتفظ به رافدًا للسكينة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، حيث ينشغل الناس بالإنجاز والمثابرة على العمل، ويعيشون في أجواء يسودها النظام وتحرص على أداء الواجب المناط بها.
تتبدى ملامح هذا الاختلاف في عدد ساعات الكلام اليومي: ففي المجتمعات الامريكية اللاتينية مثل البرازيل والمكسيك، يمضي الناس أكثر من أربع ساعات يوميًا في الحديث المباشر أو عبر الهاتف، لأن ثقافاتهم تُعلي قيمة الجماعة والتواصل المستمر. وفي اليابان وكوريا الجنوبية ينخفض المعدل إلى ثلاث ساعات، نتيجة حضور الوعي العملي الذي يهتم بتدبير ميزانية الوقت وتنظيمها، ويحسب الكلام حسابًا دقيقًا. يغدو الصمت في حياتهم تقليدًا راسخًا في التربية والعمل وحياة الجماعة، ولا يحضر الكلام إلا حضورًا محسوبًا، لأن الإنسان في هذه المجتمعات يدرك أن الكلمة عبء على الذات إن كانت فائضة عن اللزوم، وهي لا تكون ذات جدوى ما لم تمنح الذات إشراقة ترمم هشاشتها. أمّا في الدول الاسكندنافية مثل فنلندا والسويد، فيسود تقدير للصمت يقلص الكلام إلى حدود ساعتين يوميًا، ليبقى الحضور الداخلي أوسع من ضجيج الأصوات، مما يجعل الانسان ينصت إلى صوته الباطني، ويستعيد صلته بروافد سلامه الكامنة في الذات. وتعيش الرهبانية البوذية وبعض الطرق الصوفية ساعات صمت تمتد إلى عشرين ساعة يوميًا، وتتحوّل الكلمة إلى ضرورة لا إلى عادة، لأنهم يجدون في الصمت سلّمًا إلى الصفاء، وطريقًا للالتقاء بالذات والإصغاء لصوت الوجود. حين يكرس هؤلاء وقتًا طويلًا يوميًا في الصمت، يفهمون أن الإنسان لا يلتقي بجوهره إلا إذا عاش أوقاتًا طويلة من السكينة، لأن الكلمة التي تخرج من غير حكمة تحجب البصيرة عن أن ترى ما تفتحه تجربة الذات في أعماقها.
تكشف أبحاث في علم النفس الثقافي والاتصال أن الشعوب الشرق آسيوية تتحمل فترات أطول من الصمت أثناء الحوار، وتترك مسافة زمنية بين الجملة والجملة حين تتكلم، كأنها تُصغي إلى ما وراء الكلام، وتمهل كلامها كما لو أرادت أن تستمع إلى ما يقوله الصمت قبل ما يقوله الصوت.
في المقابل، يتجه الامريكي وبعض الأوروبيين إلى ملء الفجوة الكلامية بسرعة، كأنهم يخشون فراغ الصمت ولا يحتملون مراياه التي تعيد الانسان إلى ذاته. ففي دراسة واسعة في الولايات المتحدة وأوروبا، وجد أن متوسط الكلام اليومي يتراوح بين خمسة عشر وستة عشر ألف كلمة، مع فروق كبيرة بين الافراد. ويتسع الفارق عالميًا إلى مدى يثير الدهشة والتأمل؛ فقبائل المايا الإيتزا في غواتيمالا تتكلم بين خمسة آلاف وسبعة آلاف كلمة. والراهب الترابيستي لا يتجاوز كلامه ثلاثمئة كلمة في يومه، وهي أقل من عشرين دقيقة صوتية.
يكشف هذا التفاوت أن الكلام والصمت موقفان من الوجود، وأن الانسان حين يختار أحدهما يحدد الطريقة التي يصوغ بها صلته بوجوده والعالم من حوله، ويدرك حاجته إلى المعنى الذي يهب قلبه السكينة.
يرتفع الكلام حين ينشغل الانسان بسطح الواقع وينظر إليه نظرة ساذجة لا تغور في الأعماق، ولا تدرك تركيب الواقع وتعقيده، يتراجع وعيه خطوة بعد خطوة، لأن الأصوات تزدحم في داخله وتحجب بصيرته في ضباب. أمّا حين يصغي الانسان لصوته الباطني، ويمنح صمته فرصة للانبثاق من الأعماق، يتهيأ قلبه لاستقبال معنى لا يفتح بابه إلا لمن تطهر من ضجيج الخارج وصخبه، واستعد لتلقي النور الذي تعكسه تجليات الجمال الإلهي في الوجود، ويهدي كينونته إلى سكينة ترمم هشاشته وتعيد إليه انسجامه وتناغمه مع صوت الوجود.