
في خطوة غير مسبوقة، كشفت تقارير صحفية حديثة عن وجود أرشيف ضخم وسري داخل جامعة هارفارد الأمريكية، يضم آلاف الوثائق والمواد الثقافية والتاريخية الإسرائيلية. الهدف المعلن من هذا المشروع هو حفظ الذاكرة الوطنية الإسرائيلية تحسبًا لاحتمال زوال الدولة التي أسست على أنقاض وطن آخر. هذا الاعتراف الضمني يعكس هشاشة وجود كيان يعتبره الكثيرون مجرد احتلال غاشم لشعب فلسطين الأصلي، وهو كيان يعيش في خوف دائم من احتمالية فقدانه، إن لم يكن بزواله الكامل فبتغير جذري في طبيعته.
إسرائيل، التي تأسست عام 1948 على أراضي فلسطينية مأهولة، ليست دولة بالمعنى الوطني والشرعي، بل هي كيان احتلال استيطاني طغى على أرض وحياة شعب آخر. طوال أكثر من سبعين عامًا، يعيش الفلسطينيون في ظل تهجير مستمر، تجريف للمدن والقرى، بناء جدران فصل عنصري، وممارسات تهدف إلى تقويض وجودهم وهويتهم. وبينما ترفع إسرائيل شعارات الأمن والديمقراطية، يبقى الاحتلال واقعًا قاسيًا يرفض الاعتراف بحقوق ملايين الفلسطينيين في وطنهم، وينتهك القوانين الدولية والحقوق الإنسانية.
الأرشيف الموجود في جامعة هارفارد، البعيد كليًا عن الأراضي المحتلة، يُشكل شاهدًا على قلق عميق وخوف متزايد. إنه يحفظ ذكريات وثقافات قد تفقد، في حال تحقق الأسوأ. وهذا الاعتراف يحمل في طياته رسالة ضمنية بأن الاحتلال الإسرائيلي هش، وأن استمرار الظلم يولد مقاومة لا تنتهي، ويؤدي إلى تآكل داخلي يجعل استمرار الكيان ككيان احتلال أمرًا مستحيلًا على المدى البعيد.
من زاوية أخرى، هذا الأرشيف يطرح سؤالًا مهمًا عن هوية ما يُسمى «دولة إسرائيل» ومشروعها. هل هي دولة حقًا؟ أم هي منظومة احتلال واستيطان قائمة على طرد شعب وإلغاء تاريخه؟ إن تخزين التاريخ الإسرائيلي بعيدًا عن أرض فلسطين، وبعيدًا عن شعبها الأصلي، يعكس أن هذا الكيان لا يرى نفسه كتعبير عن شعب كامل له جذوره وتاريخه في هذه الأرض، بل كمشروع مستعمر هش، يتهيأ للأسوأ.
بالنسبة للفلسطينيين والعرب، يمثل هذا الأرشيف شهادة جديدة على واقع الاحتلال الذي لا يستند إلى حق، والذي طالما حذروا من أن استمرار الظلم لن يدوم. إنه تعبير عن حالة القلق من فقدان الاحتلال السيطرة، وهو دليل على أن النضال الفلسطيني المستمر سيؤدي في النهاية إلى تحقيق الحقوق، وإنهاء الاحتلال، والعودة إلى أرضهم وكرامتهم.
في هذا السياق، لا يأتي إنشاء هذا الأرشيف في جامعة هارفارد كمجرد خطوة أكاديمية، بل كدليل واضح على القلق العميق الذي يعتري النخب الإسرائيلية، وكذلك الحلفاء الأمريكيين، من المستقبل غير المؤكد لهذا الكيان. فالأرشيف لا يخزن مجرد وثائق، بل يحفظ ذاكرة ثقافية وتاريخية كاملة، تحسبًا لاحتمال زوال أو تغير جوهري لهذا الكيان الذي يعيش على صفيح ساخن.
إن هذا الاعتراف المادي بخطورة المستقبل يأتي بالتوازي مع إشارات دينية كثيرة في الكتب السماوية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. هذه النصوص التي تمثل جزءًا من تراث البشرية تؤكد أن ما بني على الظلم والاحتلال لا يدوم، وأن العدالة الإلهية ستتحقق في نهاية المطاف. ففي اليهودية، هناك نصوص تحذر من تراجع وصراع ممالك إسرائيل، وفي المسيحية تحذيرات من سقوط الأنظمة الظالمة، وفي الإسلام إشارات واضحة إلى انتصار الحق وعودة العدالة.
في المقابل، تستغل إسرائيل بعض هذه النصوص الدينية لتبرير وجودها، رغم أن القراءة العميقة للنصوص تفضح هشاشة هذه المبررات. فالكيان الذي يقيم على نفي حقوق شعب آخر لا يمكن أن يكون أبديًا، بل هو معرض للسقوط، كما تقول كل النصوص التي تحث على السلام والعدل. كما أن هذا الأرشيف يذكرنا أن الظلم لا يدوم، وأن ذاكرة الشعوب المحقة لا تموت. ففي كل محاولة لطمس الهوية، أو محو التاريخ، هناك مقاومة قائمة وقوية من الشعوب التي تؤمن بعدالة قضيتها. وهذا الأرشيف، وإن كان يحفظ ذكرى الاحتلال من منظور إسرائيلي، إلا أنه يذكّرنا أيضًا أن الاحتلال ليس سوى فصل في تاريخ عابر، وأن العدالة ستنتصر في النهاية.
إلى جانب ذلك، فإن السياسة الدولية التي طالما دعمت الاحتلال، بدأت تشهد تغيرات، حيث يظهر الحديث عن حل الدولتين كمسألة أكثر تعقيدًا، بينما تتزايد الدعوات إلى العدالة الحقيقية للفلسطينيين.
في الختام، فإن أرشيف جامعة هارفارد ليس مجرد مجموعة وثائق، بل هو مرآة حقيقية للخوف الذي يعتري الاحتلال الإسرائيلي، وهو تذكير بأن الكيانات القائمة على الاحتلال لا تستمر إلى الأبد. كما أنه دعوة للفكر العميق حول العدالة، الحقوق، والكرامة التي تستحقها الشعوب المحتلة. وما دمنا نؤمن بأن العدالة ستنتصر، فإن التاريخ سيشهد في النهاية زوال الاحتلال، وعودة الحق إلى أصحابه.