
عند قراءة البيانات المالية الرسمية الصادرة عن البنك المركزي ووزارة المالية، يتّضح بلا جدال أن العراق يقف أمام تحدٍ اقتصادي كبير، يتمثل في الفجوة المتزايدة بين النفقات التشغيلية والإيرادات.
ورغم كثرة النقاشات حول “الحلول” و“القرارات المصيرية”، إلا أن الكثيرين يظنون أن معالجة المشكلة مجرد توقيع واحد من مسؤول رفيع، وأن البدائل يمكن تنفيذها بلمح البصر، وهذا تصور بعيد تمامًا عن الواقع.
على سبيل المثال، يطرح البعض فكرة “بيع المشتقات النفطية بدل النفط الخام لتحقيق إيرادات مضاعفة”، وكأن بناء مصفى أو توسعة طاقة التكرير قرار يتخذ في يوم واحد. الحقيقة أن النظام الديمقراطي، بما فيه من بيروقراطية وتعدد في المرجعيات، يجعل تنفيذ أي مشروع استراتيجي عملية معقدة.
فإنشاء مصفى واحد يحتاج إلى موافقات وزارة النفط، وهيئة الاستثمار، والمحافظة، والدوائر المعنية بمرور الأنابيب، وكل جهة تخضع لمسار تشريعي وإداري مختلف، ما يجعل القرار الواحد يستغرق سنوات قبل أن يرى النور. هذا ليس تبريرًا، بقدر ما هو شرح للواقع لمن يتوقعون سهولة المضي بأي مشروع جديد.
ما الذي يجعل الحلول الاقتصادية قابلة للتطبيق؟
لضمان نجاح أي حل اقتصادي، يجب أن تتوافر فيه مجموعة من الشروط:
أن يكون منطقيًا وقابلًا للتطبيق
أن يكون مؤثرًا على الموازنة
أن يكون سريعًا وذا أثر مباشر
أن تحكمه تشريعات واضحة
ألا يكون فيه تداخل كبير للسلطات
ألا يمسّ حياة المواطن البسيط بشكل مباشر
هذه الشروط هي مفتاح الحلول المستدامة، لكنها في الوقت نفسه تجعل قدرة الحكومة على اتخاذ مبادرات جديدة أكثر صعوبة.
هل العراق يعمل على تنويع إيراداته؟
نعم، هناك محاولات حقيقية.
فالعراق تمكن لأول مرة هذا العام من تصدير غاز بقيمة تقارب 50 مليون دولار إلى الصين. ورغم أن المبلغ متواضع، إلا أنه خطوة أولى لدخول سوق تصدير الغاز.
كما يعمل العراق على زيادة صادرات الكبريت والفوسفات والسيليكا ومخرجات التعدين الأخرى، لكن كل هذه المشاريع تحتاج سنوات طويلة حتى تصبح بديلًا قادرًا على تعويض تراجع الإيرادات النفطية.
لكن النفقات ترتفع… والضغط أكبر
النفقات التشغيلية ترتفع بوتيرة متسارعة، وتستنزف الموازنة إلى حدّ تقليص القدرة الاستثمارية للدولة.
وبين محاولات رفع الإيرادات وتضخم النفقات، تضيق مساحة الحركة أمام الحكومة.
ما الحل؟
هناك مساران رئيسيان:
1. توسيع المشاريع الاستثمارية الكبرى القادرة على خلق فرص عمل وجذب الاستثمارات.
ورغم الحديث عن استثمارات أجنبية بقيمة 100 مليار دولار، إلا أن ميزان المدفوعات يكشف أن أقل من 10% من هذا الرقم دخل فعليًا، ما يعني أن المتابعة والمتابعة فقط هي التي تحول “الإعلان” إلى “استثمار واقعي”.
2. زيادة الدين الداخلي وتوجيهه إلى مشاريع استراتيجية تنتج قيمة حقيقية، وتعزز الناتج المحلي، وتفتح آلاف الوظائف في القطاع الخاص.
لكن كل من هذين الحلين يصطدم بعوائق تشريعية وإدارية وواقعية، تجعل الخيارات الحكومية محدودة ومقيدة.
إذن… هل ترشيد النفقات هو الحل الوحيد؟
الحكومة قد لا تجد أمامها خيارًا متاحًا وسريعًا يحقق الشروط المذكورة سوى ضبط النفقات، رغم أن هذا الخيار نفسه أصبح صعبًا في ظل تضخم الالتزامات التشغيلية.
خلاصة الصورة
إذا لم تُتخذ القرارات اليوم، فستصبح أصعب وأكثر تكلفة غدًا.
وإن لم تُعالج المشكلة الآن، فسيتدهور مستوى الخدمات الأساسية — التعليم، الصحة، البنى التحتية — إلى مستوى أسوأ بكثير مما نراه اليوم.
الأزمة ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل هي مسؤولية مشتركة بين الحكومة والمجتمع.
أما من ينتظر حلًا سريعًا لا يمسه كمواطن، فهو واهم.
فإصلاح الموازنة مسار طويل يحتاج سنوات، لكنه الطريق الوحيد للخروج من الأزمة. .