
في هذا الحوار، نقترب من تجربة شاعر عراقي حمل الريف في قلبه، والنجف في لغته، والإنسان في رؤيته. شاعر تشكّلت بداياته بين سنابل غمّاس وحقولها، وتفتّحت موهبته على مكتبات النجف ومنابرها الأدبية. من طفولةٍ مشبعة برائحة الطين وشدو العنادل، إلى شبابٍ صقلته القراءة والاحتكاك بالكبار، ثم إلى رؤية شعرية نضجت عبر العقود وتلوّنت بالتجارب السياسية والاجتماعية والإنسانية. هنا، يكشف لنا الشاعر عن جذوره الأولى، عن اللحظات التي صنعت وعيه، عن الشعر الذي شكّل ملاذه ومرآته، وعن الطريق الطويل الذي حمله من رعاية الأبقار إلى الوقوف بثبات على منصة الشعر في الرابطة الأدبية عام 1968. حوار يضيء بداياته، تكوينه، رؤيته، وانتماءه الإبداعي، ويكشف عمّا يختبئ خلف الكلمات من حياة كاملة نابضة بالحب والتمرّد والجمال.
* أهلا وسهلا بك شاعرنا النجفي في حوار موسع عن مسيرتك الادبية والشعرية.
ــ اهلا وسهلا بكم .
* دعنا نبدأ من الجذور، كيف كانت طفولتكم في الخمسينيات والستينيات، وما العوامل التي أسهمت في تشكيل وعيكم الأدبي الأول؟
ــ ولدتُ في إحدى قرى ناحية غمّاس في محافظة الديوانية، في الفرات الأوسط، وهناك نشأت وتفتّح وعيي الأول. تنفستُ هواء الريف الممزوج برائحة الأرض وعبق العنبر وشدو العنادل. عانقتُ النخيل وركضت في المزارع والحقول، أغنّي للماء والمطر والخضرة والجمال. كبرنا على أهازيج الفلاحين التي تشدو للحب وبساطة العيش وإكرام الضيف؛ ومنها توهّج في داخلي العشق الأول، عشق القرية بكل عنفوانها وحنوّها.. وقد انعكست هذه البيئة الريفية الساحرة في بدايات شعري، ولا سيما في قصيدتي «صُوَر في جيوب الذاكرة» المنشورة في مجموعتي الشعرية مرايا الزهور ، والتي أقول فيها:
رعيتُ الأبقارَ هناك
وحلمتُ بأحلامٍ شتّى
وتذكّرتُ حكاياتِ الجَدّة
وكبرتُ كبرتُ
فإذا بي (عنتر)
أتبوّأُ في حَوفة (عبلة)
في مرحلتي الابتدائية والمتوسطة كنت أقرأ أي كتاب يقع بين يدي. قرأتُ للمنفلوطي، وتوفيق الحكيم، وجبران، وجرجي زيدان، وجورج جرداق، وغيرهم. هذه القراءات المبكرة منحتني ذائقة لغوية وملكة في الكتابة لاحظها معلّمـيّ، فشجّعوني كثيراً، خصوصاً في درس الإنشاء.
لاحقاً، انتقلتُ مع عائلتي إلى موطنها الأصلي في النجف، وأكملت دراستي الثانوية في إعدادية النجف للبنين. وهناك انفتحت أمامي عوالم جديدة: مكتبات عامرة، نوادٍ أدبية، شعراء كبار، وأمسيات متواصلة لـ «الرابطة الأدبية». كانت النجف مدينة تتنفس الفصاحة والبلاغة، فتعمقت صلتي بالشعر، وسمعتُ فحول الشعر والأدب مثل الجواهري والشرقي وعبد المهدي مطر ومصطفى جمال الدين وعبد الأمير الحصيري. وكان ارتقائي منصة الشعر لأول مرة عام 1968 .
* متى بدأتم الإحساس الأول بالكتابة الشعرية، وهل تتذكرون أول نص كتبتموه؟
ــ بدأتُ الكتابة مبكّراً خلال مراحل دراستي، وكنت أميل أولاً إلى كتابة القصة، وقد نشرت لي بعض المجلات العراقية والعربية قصصاً قصيرة. لكن شغفي الأكبر كان بحفظ الشعر، سواء من المناهج المدرسية أو مما أقع عليه في الكتب. وقد التفت معلّمـي إلى هذه الموهبة وشجّعوني. أما نظم الشعر فبدأ يتبلور بوضوح في مرحلة الثانوية، في بيئة النجف الغنية بأنديتها الأدبية—الرابطة الأدبية ومنتدى النشر—حيث كنت مواظباً على حضور الأمسيات. ومع أن بذور الإحساس الشعري بدأت مبكّرة، إلّا أن بدايات الكتابة الشعرية الواضحة ظهرت في بداية سبعينيات القرن الماضي .
* ما الدور الذي لعبه البيت والبيئة النجفية في تكوين ذائقتكم الأدبية والثقافية؟
ــ أنتمي إلى أسرة دينية وعلمية خدمت الصحن الحيدري الشريف، وقدمت لهذه المدينة رجال دين ووجهاء وشعراء. لذا كان البيت نفسه حاضنة أدبية وأخلاقية وثقافية.. وفوق هذا، فإن النجف مدينة علم وأدب بامتياز؛ بيئة تنتج الفصاحة وتحتضن الإبداع. وهذه العوامل مجتمعة صقلت موهبتي الأدبية ووسّعت وعيي الفكري. كما أن انتمائي المبكّر إلى حركة يسارية ذات رؤى إنسانية واجتماعية ترك أثراً بالغاً في تشكيل نظرتي للحياة. وقد تعرّضت بسببه للتوقيف، وكان لتلك التجربة أثر واضح في مساري اللاحق.
* مَن هم الشعراء أو الكتّاب الذين أثروا فيكم في البدايات، وما الكتب التي كانت تفتنكم آنذاك؟
ــ نشأتُ في مدرسة النجف الأدبية، فتأثّرتُ بشعرائها المجدّدين والمحدثين الذين شكّلوا ذائقة جيلاً كاملاً. وعلى مستوى الشعر العراقي، كان تأثّري بـ السيّاب واضحاً. أمّا عربياً، فقد أحببتُ شعر بدوي الجبل وتأثّرتُ به كثيراً.
أما كتب البدايات فكانت مزيجاً من الأدب العربي الكلاسيكي والحديث، كتب المنفلوطي، جبران، الحكيم، جرجي زيدان، وهي التي أسهمت في تشكيل لغتي وبوادر رؤيتي الأدبية.
* هل كانت دراسة القانون ذات تأثير على لغتكم الشعرية وفهمكم للعدالة والإنسان في نصوصكم؟
ــ الأدب رسالة، والقانون التزام؛ وكلاهما يلتقيان في القيم والمعنى. دراستي للقانون وممارستي للمحاماة جعلتني أكثر حساسية لمفاهيم العدالة والحقوق والكرامة الإنسانية ، وهذه المفاهيم انعكست بطبيعة الحال على لغتي الشعرية والسردية. فالأديب حين يمتلك لغة قوية ووعياً قانونياً يستطيع أن يوازن بين الجمال والإلتزام ويمنح نصوصه عمقاً إنسانياً أكبر.
* كيف تشكّل وعيكم الشعري الأول، وما اللحظة التي شعرتم فيها أنكم دخلتم العالم الشعري فعلياً؟
ــ تبلور وعيي الشعري تدريجياً؛ فقد بدأتُ قارئاً نهماً قبل أن أكون كاتباً. كانت لحظة الانجذاب الحقيقي للشعر يوم وجدت نفسي مأخوذاً بالمجازات، وبالقدرة العجيبة للكلمة على نسج العاطفة والفكرة والصورة. لكن اللحظة التي شعرت فيها أنني دخلت عالم الشعر بحق كانت حين ارتقيتُ المنصة في إحدى أمسيات الرابطة الأدبية في النجف عام 1968 . هناك أدركت أن الكلمة ليست مجرد تعبير، بل مسؤولية وجمال ورؤية.
منذ تلك اللحظة صرت أتعامل مع الشعر باعتباره جزءاً من كياني، لا هواية عابرة. فكل قراءة، وكل حدث، وكل تجربة إنسانية كانت تتخذ عندي شكلاً لغوياً يسعى للخروج إلى العلن.
* ما الذي ميّز بداياتكم الشعرية من حيث الموضوعات والأساليب؟
- بداياتي كانت مشبعة بروح البيئة الريفية التي نشأت فيها: الماء، الطين، النخيل، الحقول، صوت الجدّة، وحكايات الريف العابق بالأساطير. ثم امتزج هذا كله بروح المدينة النجفية مكتباتها، شعراؤها، ومنابرها النقدية.
لذلك جاءت بداياتي مزيجاً من صورة ريفية غنية، ورصانة لغوية اكتسبتها من المدرسة النجفية، وانفتاح على الحداثة عبر ما كنت أقرأه من شعراء التفعيلة وروّاد التجديد.
* هل تذكرون أول قصيدة شعرية شعرتم أنها تمثل انطلاقتكم الحقيقية؟
ــ نعم. مع أني كتبت الكثير قبلها، إلا أن القصيدة التي شعرت أنها مثّلت انطلاقتي الأولى كانت قصيدة كتبتها في مطلع السبعينيات، حين بدأت ملامح صوتي الشعري تتكوّن بعيداً عن المحاكاة. لم أعد أكتب مثل من أحبّهم، بل بدأت أبحث عن صورتي الخاصة. كانت القصيدة تعبيراً عن تلك المرحلة التي تختلط فيها مشاعر الحب والفقد والحلم والتمرّد—مرحلة الشباب الأولى في مدينة النجف.
* كيف انتقلتم من مرحلة التأثر إلى مرحلة التميّز بصوت شعري خاص بكم؟
ــ كل شاعر يبدأ متأثّراً. وهذا أمر طبيعي وضروري. لكنّي كنت واعياً منذ شبابي أن التقليد ليس ممراً دائماً، بل مرحلة عابرة. القراءة الواسعة، والانخراط في الأمسيات الأدبية، والاحتكاك بالشعراء الكبار، كلها دفعتني للبحث عن «لغتي» أنا.
بدأتُ أكتب عن الإنسان، عن الريف والمدينة، عن الحب، عن الوجع والحلم، بلغة تجمع بين الصورة الحديثة والروح الكلاسيكية التي ورثناها من تربيتنا الثقافية. وشيئاً فشيئاً بدأ صوتي الشعري ينضج ويتفرّد.
* كيف كانت نظرة الوسط الثقافي في النجف لبداياتكم الشعرية؟
ــ الوسط الثقافي النجفي كان وسطاً صارماً في معاييره، لكنه في الوقت ذاته منفتح على الموهبة. لذلك كان الاحتفاء مشروطاً بالجدية والموهبة الأصيلة. وقد وجدت منهم التشجيع حين لمسوا صدقي في الكتابة وولعي بالأدب.
أما الرابطة الأدبية ومنتدى النشر فكانا بمثابة امتحان حقيقي. الوقوف أمام شعراء كبار، وإلقاء نصوصي أمامهم، جعلني أكثر وعياً بمسؤولية الكلمة، وأكثر حرصاً على تطوير أدواتي.
* هل واجهتم تحديات أو عوائق في بدايتكم الإبداعية؟
ــ بالتأكيد. التحديات لم تكن قليلة. فمن جهة، كان على الشاعر الشاب أن يثبت نفسه في وسط غني بالشعراء المبدعين. ومن جهة أخرى، كانت الظروف السياسية والاجتماعية في تلك المرحلة شديدة الحساسية. انتمائي الفكري اليساري، وما نتج عنه من توقيف وتجارب صعبة، ترك في داخلي أثراً كبيراً، لكنه أيضاً صاغ جزءاً من شخصيتي الأدبية.. التجربة المرّة تصنع وعياً عميقاً، والشعر ابنُ هذا الوعي.
* كيف تصفون تطور تجربتكم الشعرية عبر العقود، وما المحطات التي شكّلت تحولاً في مسيرتكم؟
ــ تجربتي الشعرية لم تكن خطّاً مستقيماً، بل كانت سلسلة من التحولات. بدأتُ بالشعر العمودي، متأثراً بمدرسة النجف وبفحول الشعر العربي. ثم جاءت مرحلة التفعيلة التي منحتني مساحة أوسع للصورة الشعرية والانفعال الإنساني. ومع الزمن اكتشفت أن الشعر ليس وزناً وقافية فحسب، بل رؤية وإحساس وتوتر لغوي.
كلّ مرحلة من مراحل حياتي انعكست بشكل أو بآخر على كتابتي: مرحلة الريف، ثم النجف، ثم الانشغال بالعمل المهني والحياة السياسية والاجتماعية. وكل تجربة جديدة كانت تضيف طبقة جديدة لصوتي الشعري.
* ما الموضوعات التي شغلتكم في نصوصكم، وكيف تطورت هذه الثيمات؟
ــ في البدايات، كانت موضوعاتي تدور حول الطبيعة والذاكرة والطفولة والريف، تلك البيئة التي تركت في داخلي جذوراً عميقة. ثم جاء الانشغال بالإنسان، بالوجع، بالحب، بالبحث عن الحرية، وبالمصير الفردي والجماعي.
مع الزمن أصبحت الثيمات أكثر عمقاً؛ صرت أكتب عن الخسارة، الاغتراب، الخيبة، والاحتجاج الهادئ ، لكن دون أن أفقد تلك الروح الدافئة التي تعود بي دائماً إلى قرية غمّاس وإلى النجف.
* إلى أي مدى أسهمت التجارب الشخصية—السياسية والاجتماعية في تشكيل رؤيتكم الشعرية؟
ــ لا يمكن فصل الشعر عن التجربة الشخصية. انتمائي المبكر لفكر يساري، وما ترتب على ذلك من توقيف وتجارب وجودية قاسية، كان له أثر كبير في تشكيل حسّي الإنساني. تعلّمت من تلك التجارب أن الشعر ليس رفاهية، بل موقف. موقف جمالي، وموقف أخلاقي، وموقف إنساني.
لقد حملتُ عبر السنين همّ الإنسان البسيط، همّ الحرية، همّ الكرامة. ولعلّ هذا ما منح نصوصي ذلك البعد الوجداني الذي يلتقط العابر من التفاصيل ويحوله إلى معنى.
* كيف تتعاملون مع اللغة الشعرية، وهل تميلون إلى لغة تقليدية أم حداثية؟
ــ أنا ابن اللغة الكلاسيكية التي نشأت عليها في النجف، وابن الحداثة التي جاءت مع السياب ورفاقه. لذلك تجد في نصوصي مزيجاً من الاثنين.
* هل هناك لحظات أو قصائد تشعرون أنها تمثّل ذروة تجربتكم الشعرية؟
ــ ثمة قصائد أشعر أنها تمثّل منعطفات مهمة في تجربتي. بعضها يعود إلى بدايات السبعينيات، حين بدأتُ أمتلك رؤيتي الخاصة، وبعضها جاء لاحقاً حين تراكمت التجارب وتعمّقت الرؤية. لكني أعتقد أن كل مرحلة لها ذروتها الخاصة، وأن الشاعر لا يتوقف عن كتابة ذروته إلا حين يتوقف عن الكتابة نفسها.
* كيف تتعاملون مع النقد؟ وهل كان له دور في صقل تجربتكم؟
ــ أقدّر النقد حين يكون نقداً معرفياً وجمالياً يضيء النص ولا يحاكمه. في بداياتي كان النقد في النجف مدرسة قائمة بحد ذاتها، يساعد الشاعر على تهذيب لغته ووعيه. أما النقد الانطباعي أو المتحامل فليس له وزن عندي.
* كيف ترون موقعكم اليوم في المشهد الشعري العراقي والعربي؟
ــ أرى نفسي جزءاً من نهر طويل من الشعراء العراقيين الذين حملوا همّ الإنسان واللغة والجمال. لا أدّعي أنني الأكثر أهمية، لكني أؤمن أنني قدّمت صوتاً خاصاً ومخلصاً لتجربته، متمسكاً بجذوري ومفتوحاً على التجديد. ما يهمني اليوم هو أن يبقى الشعر مساحة للصدق، ونافذة يرى القارئ فيها شيئاً من ذاته.