
حين اندلعت حرب البوسنة الرهيبة 1992 – 1995، وجد الشعب البوسني في علي عزّت بيغوفيتش زعيماً يوحّد صفوفه، فقاد المقاومة السياسية والعسكرية ضد العدوان على بلاده، ودافع عن هويتها الإسلامية الأوروبية في آن واحد. كان يؤمن بأن الإسلام في البوسنة ليس غريباً عن أوروبا، بل هو جزء من تراثها الحضاري والروحي. وعندما أصدر عام 1970 كتابه «الإعلان الإسلامي»، لم يكن يقدّم بياناً سياسياً بقدر ما كان يضع مشروعاً حضارياً وأخلاقياً يرسم ملامح نهضة إسلامية أوروبية الجذور والمعالم. فقد جاء الكتاب ثمرة تجربة فكرية وروحية لمفكر عاش في الوسط الأوروبي، وواجه تحديات الحداثة الغربية، والاشتراكية اليوغوسلافية، والتاريخ العثماني، والانشقاقات الدينية والقومية في البلقان. لذلك ظهر « الإعلان» وثيقةً تأسيسية تبحث في المعنى الإنساني للإسلام بوصفه ديناً للحرية والعدل، لا مشروعاً للهيمنة أو الإقصاء.
يبدأ بيغوفيتش كتابه بالتأكيد على أن الإسلام ليس مجرد شعائر أو عقائد مجردة، بل هو رؤية شاملة للإنسان والعالم تجمع بين المادة والروح، وبين الإيمان والعمل، وبين الفرد والمجتمع. ويستخدم مفردته الشهيرة « الوحدة الثنائية» ليعبّر عن هذا التوازن الذي يميز الإسلام ويجعله حضارة وسطاً، قادراً على نقد المادية الغربية من دون أن يسقط في الروحانية السلبية أو الانعزال. ومن الركائز التي شدّد عليها فكرة الحرية باعتبارها جوهر الوجود الإنساني. فالعبودية لله وحده هي، في نظره، طريق التحرر من كل أشكال الاستبداد السياسي والفكري. ويذهب إلى أن أي مجتمع إسلامي حقيقي يجب أن يقوم على احترام الحريات الفردية، وكرامة الإنسان، وسيادة القانون، ومشاركة المواطنين في الشأن العام. ومن هنا يرفض بصورة قاطعة الربط الذي حاول خصومه أن يقيموه بين الإسلام والاستبداد، ويرى أن الغرب هو الذي تورّط تاريخياً في نظم شمولية وديكتاتوريات، بينما يقدّم الإسلام نموذجاً أرقى للعدالة الاجتماعية والتكافل الإنساني.ويتوقف بيغوفيتش عند مفهوم الثقافة الإسلامية، معتبراً أن أي مشروع نهضوي لا يقوم على الثقافة سيكون أجوف ولا يمكن أن يعيش طويلاً. فالثقافة، في تعريفه، هي ثمرة الإنسان الحر المبدع، وهي التي تمنح المجتمع روحه وهويته. ويرى أن الإسلام قدّم عبر التاريخ نموذجاً فريداً لثقافة عالمية مفتوحة، تمزج بين العقلانية اليونانية، والروحانية الشرقية، والفقه العربي، وتنتج في النهاية حضارة إنسانية لا تخص العرب وحدهم، بل كل الشعوب التي دخلت في الإسلام، ومنها شعوب البلقان. كما ينتقد محاولات اختزال الإسلام في مجرد أحكام فقهية أو مؤسسات دينية شكلية. فالإسلام، كما يراه، ثورة أخلاقية قبل أن يكون نظاماً سياسياً. ومن هنا يؤكد على ضرورة إصلاح المسلم قبل إصلاح الدولة، لأن الدولة الصالحة هي نتيجة طبيعية لأفراد أحرار ومسؤولين. ويكتب بصراحة « المشكلة ليست في الإسلام، بل في المسلمين»، ويطالب بعودة الروح الأخلاقية، وإحياء قيم العمل والصدق والانضباط والمسؤولية.