رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
الصمت معلم من لا معلم له


المشاهدات 1775
تاريخ الإضافة 2025/11/16 - 9:03 PM
آخر تحديث 2025/11/23 - 8:52 PM

تسود المجتمعات العالقة في تاريخها حالة من الهوس بالكلام، ويغرق فيه بعض الناس بشغف يقترب من الهذيان، لأن الكلمة عندهم تتحول إلى لافتة دعائية يستعرضون بها ما يفتقرون إليه من معرفة. يتكلم الإنسان عندنا في كل شيء، ويتوهم بعض الزعماء السياسيين أن امتلاك السلطة يبيح لهم اقتحام ميادين الفلسفة واللاهوت والفقه والتفسير والأدب والفن والتاريخ والسياسة والاقتصاد وغيرها، من غير أن يمتلكوا ما يتيح لهم أبسط شروط الخبرة. يكرر بعضهم أسماء فلاسفة ومفكرين وأدباء وفنانين، من غير أن يعرف عنهم معلومات تتجاوز اللفظ. يخطئ في نطق الاسم، وحين يشير إلى معلومة تتصل بهم يخطئ في التعريف بأفكارهم، وقد سمعت ذلك مرات كثيرة.  يتوهم صاحب السلطة أن كرسي الحكم يمنحه علمًا شاملًا،كأن تاريخ العلم المتراكم بالاكتشافات والاختراعات والابداعات لآلاف السنين يستقر فجأة في يد مَن يجلس على هذا الكرسي. يرى نفسه مالكًا لسلة الآداب والفنون والثقافات والمعارف والعلوم والأديان، من غير أن يدرك أن المعرفة لا تهبط على الإنسان حين تكون السلطة بيده، بل تنبني بسنوات من التعب والكدح والمكابدة والمثابرة والصبر الطويل. هكذا يندفع بعضهم إلى محاكاة صورة صدام حسين وأمثاله بوصفه الرجل الضرورة، ويتعامل مع السلطة كأنها تفويض يجيز له التحدث عن كل شيء بأي شيء، من غير أن يمتلك من الخبرة ما يبرر هذا الادعاء، فيتحول كلامه إلى ضجيج يبتلع المعنى، ويشوه صورة السياسة، ويعمق أزمة الوعي في المجتمع. لم ينتفع سياسيونا من أعوام عاشوها في الغرب، مع أن تلك الاقامة كان يفترض أن توقظ في وعيهم معنى التخصص، وتكشف لهم كيف تنمو المعرفة حين يصون الإنسان حدود الخبرة، ويكرم مقامات أهل العلم. عاشوا في مناخات ديمقراطيات حديثة، ورأوا بأعينهم كيف يتطور العالم حين ينهض كل إنسان بما يحسنه، وكيف يمتد العلم عموديًا في عمق التجربة، ويتسع أفقيًا في فضاء الاكتشاف. مع ذلك عادوا من غير أن يحملوا في أرواحهم هذا الدرس، وظل بعضهم يخلط تخصصات لا يملك عنها معرفة، ويخاطب الناس في الفضائيات كأنه يجلس في مقام أهل الخبرة، مع أن كلامه يفتقر الى الجذور التي تمنح الكلمة ثقلها. يتغافل عن حقيقة أن احترام التخصص شرط لبناء وعي راسخ، وأن الادعاء الفارغ يسيء إلى العلم، ويشوه صورة المعرفة، ويغلق الأبواب التي يفتحها العقل حين يصغي للتجربة العميقة ولأهلها الذين أفنوا أعمارهم فيها.
لم يتعلم هؤلاء أن المجتمعات المتقدمة تفكر أكثر مما تتكلم، وتعمل أكثر مما تتحدث، وتصمت أكثر مما تلغو، لأن حياتها تنهض على وعي يزن الكلمة كما يزن الموقف والفعل، ويربط القول بجذره العميق في التجربة. في تلك المجتمعات يلتزم السياسي بحدود اختصاصه، ويعود إلى أهل الخبرة فيما لا خبرة له فيه، ويحرص على اقتصاد القول، وينأى عن الضوضاء التي تبدد المعنى وتطفئ نور الكلمة. هناك تنشأ الكلمة من معرفة، ويولد القول من صلة حية بالفعل، ويتعلم الإنسان كيف يبني علاقته بالعالم من خلال التفكير والعمل والصمت، لا من خلال الهذر والغرق في أكداس من الألفاظ. ذلك ما نراه في المجتمعات التي تكرم التخصص، وتصون سيرورة العلم، وتمكن اللغة من أن تؤدي رسالتها. المعرفة تنمو حين يصغي الإنسان أكثر مما ينطق، ويفكر أكثر مما يستعرض، ويعمل أكثر مما يدعي، ويمنح الكلمة وزنها بوصفها موقفًا، وفعلًا لبناء الوعي، لا مجرد ضجيج صوتي يتبدد في الهواء.
يغرق هؤلاء في وهم يعوض الفعل بالثرثرة، فيستبدلون التفكير بالهذيان، ويظنون أن تراكم الالفاظ يغني عن بناء المعنى، وحين يحاولون التفكير ينزلقون إلى بحر من الكلمات من غير أن يغوصون في أعماق المفاهيم التي تنحت الوعي. مؤسساتنا التربوية والتعليمية والدينية والثقافية والاعلامية والاجتماعية تنشغل بترسيخ حضورها عبر الشعارات، وتختبر نجاحاتها بما تنظمه من مهرجانات واحتفالات وماراثونات كلامية، وما تردده من عبارات، من غير أن تلتفت إلى أن ذلك لا قيمة له مالم يقترن بما تقدمه من منجز حقيقي في حياة الناس. ينهار الوعي السياسي حين يتكاثر الكلام في غياب موقف وطني صادق، لأن الثرثرة تشهوه الحياة العامة، وتهشم صورة الدولة، وتبدد معنى الوطن. يتصدع الوعي الديني حين يفيض الكلام من غير أن يستند إلى حياة روحية ويقظة أخلاقية، الكلمات الجوفاء تستفز النفوس وتدفعها إلى النفور من الدين، وغلق الأبواب التي يفتحها الضمير حين ينصت إلى أعماق الذات. هكذا يتحول الكلام إلى عبء على الروح حين ينفصل عن التجربة، ويفقد قدرته على ايقاد نور المعنى في قلب الإنسان.
إننا مدعوون إلى حماية الاجيال الجديدة من داء الثرثرة الذي يستنزف وعينا، وإعادة الاعتبار للصمت والتأمل والتفكير، وكل ما يتيح للذات أن تتوغل في عالمها الجواني، وتكشف أغوارها العميقة، وتستكشف آفاقها الرحبة التي تتوالد فيها بذور المعنى. في هذا الفضاء يتجلى ما يمكن تسميته اقتصاديات الكلام، بوصفه وعيًا يضبط مقدار القول وكيفيته وشكله ومضمونه، ويتابع انماط انتاجه، ورأس ماله، وادخاره، وقيمته، وريعه، وتداوله، وسوقه، وتسويقه، وأرباحه، وكل ما يتصل باقتصاد الكلمات ومجالات حضورها وتداولها. هذا الوعي يمنح الانسان قدرة على تمييز ما ينبغي أن يقال وما ينبغي أن يصمت عنه، ويهذب الكلام ليكون حاملًا للمعنى لا عبئًا عليه، ويحرر اللسان من الشقشقات اللغوية، والرطانات اللفظية، والكلمات الجوفاء، المفرغة تخلو من وهج المعنى، في ما يكتبه الانسان أو ينطقه. بذلك يستعيد الكلام وظيفته، ويتحول من ضجيج يبدد الوعي إلى فعل معرفة يتوالد في أحضان الصمت، ويتوالد في ضوء التفكير، ويقي الحياة من التفاهة التي تبتلع المعنى، حين يشيع الهذر وتخفت أنوار البصيرة.من الضروري أن تستوعب خطط التربية والتعليم في مجتمعاتنا تدريس اقتصاديات الكلام وفن الإصغاء، وأن تمنح التدريب عليهما مكانه في برامجها، في مراحل التعليم الأساسي كلها، منذ رياض الأطفال إلى نهاية التعليم الثانوي. اقتصاديات الكلام وفن الإصغاء حاجة تربوية وتعليمية وذوقية وروحية وأخلاقية وعقلية، تقتضيها حالة الانهيار التي تصيب القلب والروح والذوق والعقل، في غمرة هذيان أكثر السياسيين، وبعض رجال الدين، وكثير من الإعلاميين، وطائفة ممن يسمون أنفسهم شعراء وأدباء ومثقفين. هذه الحاجة تنبع من رغبة في حماية الوعي من الفوضى التي تنتجها غثيان الأصوات وشحة المعنى، ومن رغبة في إحياء ملكة الإصغاء التي تفتح أبوابًا من الفهم لا يفتحها الكلام المتدفق من غير تأمل. ينبغي أن يتهيأ الطفل منذ سنواته الأولى لوعي ما يقول وما يسمع، ويتعلم كيف يصون الكلمات من الابتذال، وكيف يمنح القول روحًا تنبع من الداخل لا من استعراضات اللسان. بهذه التربية يستعيد الكلام وظيفته، ويستعيد القلب هدوءه، ويستعد العقل للتفكير الذي يبني المعنى في رحم صمت يتصل بنور التجربة، ويعيد للكلمة جذورها في الوعي وثمارها في الحياة.
فن الإصغاء يعني إرادة التعلم، والتعبير عن احترام عقل المتحدث وشخصيته، وإرادة التنوع الديني والثقافي، وادراك أن الاختلاف ظاهرة أبدية في حياة الإنسان، وأن الابداع والتجديد يولد في فضاء الاختلاف لا التطابق، لأن التطابق يكرر النسخ المتشابهة. الإنصات يعلم الإنسان مهارة الاصغاء، ويعلمه كيف يتذوق لذة الصمت، وكيف يصغي لنداء قلبه. الصمت معلم مَن لا معلم له، ونافذة ضوء يكشف بها الإنسان مديات أناه الباطنية العميقة، ويثري أعماقها بالمعنى. في فضاء الصمت يتحول الوعي إلى مقام تلوذ به الروح حين ترتبك الأصوات من حولها، ويغدو مساحة لقاء يتصل فيها الإنسان بنوره الداخلي، ويتهيأ لالتقاط ما يفلت في صخب العالم، ويتعلم كيف يبني وعيه من أرصدة الخبرة والتأمل، لا من تدفق الألفاظ الجوفاء. الإصغاء هنا ليس مهارة للتواصل فقط، وإنما أسلوب لتربية الروح، وتهذيب الذوق، وتنمية القدرة على التمييز بين الكلام الذي يفتح بابا للمعنى والكلام الذي يطفئ نور الوعي. كلما اتسع أفق الإصغاء في حياة الإنسان اتسعت معه قابليته للفهم، وتعززت في داخله تلك الخبرة اللامرئية التي تلتقط الإشارات الخافتة، وتضيء طريقه إلى كينونته العميقة. المعرفة التي تنبع من الصمت أرسخ من الكلام الذي يطفو على سطح الوعي، وأقرب إلى روح الإنسان من أي خطاب لا جذور له في التجربة.


تابعنا على
تصميم وتطوير