
وأنا أتلو سورة الفاتحة على القبر الأبيض في مقبرة الشهداء بمدينة سراييفو، خطرت على بالي سطور قرأتها عن سيرة صاحب القبر علي عزَّتبيغوفيتش وردت في كتابه «هروبي إلى الحرية» أو « هروبٌ إلى الحرية». وهو واحد من ستة كتب صدرت عن « تنوير للنشر والاعلام» المصرية، ضمن الطبعة الشرعية للترجمة الكاملة التي يحرّرها ويراجعها المفكر والناشر عبد الرحمن أبو ذكري، الذي ينبه في تصديره لتلك الكتب إلى جملة من الملاحظات، منها ما يتعلق بإعادة كتابة اسم الزعيم والمفكر البوسني ليكون: علي عزَّتبيغوفيتش، متصلاً كما في لغته الأصلية، « فهو اسم شخص واحد ولقبه ونسبته، ولا يجوز تقطيعه» كما يؤكد أبو ذكري، موضحاً أن اسم العائلة يتألف من ثلاثة مقاطع: «عزَّت» و «بيغ» و « فيتش»، الأول اسم جده الأعلى، والثاني اللقب العثماني لهذا الجد، وهو لقب: بك أوبيك، الذي شاع بين العرب، والثالث لاحقة بمعنى ابن، تماثل اللاحقة « أوغلو» في التركية. غير أن الشائع في العربية كتابته مفصولاً هكذا: علي عزَّت بيغوفيتش. ويعني علي بن عزَّت بك .
في «هروبي إلى الحرية» الذي كتبه خلال سنوات سجنه، يقول بيغوفيتش: «إذا كان الأدب هو هروبي الثقافي إلى الحرية، فإن هروبي العاطفي كان في تلك الرسائل التي كانت تصلني من أولادي، لستُ متأكداً بأنهم يعرفون، أو أنهم سيعرفون يوماً، ماذا عنت تلك الرسائل بالنسبة لي». وهذا يعكس الجانب العاطفي من شخصية هذا الرجل الذي لم يكن مجرد أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك بعد نيلها الاستقلال عام 1992، بل كان رمزاً نادراً جمع بين الفكر والسياسة، بين عمق التأمل الفلسفي وصلابة الموقف العملي، وبين الإيمان الديني والالتزام الإنساني. كان مفكراً إسلامياً مستنيراً، ومثقفاً أوروبياً واسع الاطلاع، عاش تجربة بلاده في الصراع بين الشرق والغرب، فصاغ منها مشروعاً فكرياً فريداً يزاوج بين قيم الإسلام والحداثة، بين الروح والعقل، وبين الأصالة والتجديد.
وُلد علي عزَّتبيغوفيتش في مدينة شاميتس شمال البوسنة والهرسك يوم الثامن من آب/ أغسطس عام 1925، ونشأ في سراييفو، حيث تفتّحت مداركه على أجواء أوروبا الوسطى التي كانت تموج بالتحولات الفكرية والسياسية. درس القانون في جامعة سراييفو، وتأثر بالفكر الغربي وفلاسفة الوجودية، لكنه ظل يبحث عن أساس أخلاقي وروحي للإنسان لا توفره المذاهب المادية. ومن هنا تبلور مشروعه الفكري في كتابه الشهير «الإعلان الإسلامي» الصادر عام 1970، الذي مثل بياناً حضارياً يدعو إلى نهضة فكرية وروحية إسلامية تقوم على الحرية والمواطنة والتكافل الاجتماعي، بعيداً عن الجمود أو الاستبداد باسم الدين. وفيه يؤكد أن الإسلام ليس مشروع دولة دينية مغلقة، بل منظومة قيمية شاملة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الروح والمادة، بين العقيدة والعقل، وبين الحرية والمسؤولية. وسنتوقف في الحلقة القادمة عند هذا الكتاب الذي عُدَّ بحق «البيان الإسلامي» المقابل لـ « البيان الشيوعي» الذي كتبه ماركس وإنجلز، لكن بلغة الروح والإيمان.