
لا تزال، وأنت تشاهد، تشعر بأنك أمام عمل واحد، بل أنت أمام فصول من عمل واحد. اللوحات ، تبدو كأنها لم توجد عبثاً في هذه القوالب، التي تمتد عرضاً وتضيق طولاً بالنسبة لعرضها. هذه القوالب تجعل اللوحات بعضها مقابل بعض، خطواتٍ انتقاليةً، كمقاطع متواصلة، لا يبدو أن الفنان غريب عن هذه الفكرة.
من هذه الأبيات يستخرج في معرض الفنان ضياء العزاوي في غاليري صالح بركات ببيروت عنواناً شاملاً للمعرض “شهود الزور”. قد يربكنا العنوان، لكننا نفهم فوراً أن العراق هو المعني، وأن هذا ما يجعلنا نتيقن من الانطباع الأول الذي تبادر إلينا من قوالب اللوحات الطولية العرضية، وانفراد إحداها بالأسود والأبيض والرمادي، بينما تختصر الثانية في ثلاثة ألوان بديلة، بذلك تخطر لنا غارنيكا بيكاسو، والحق أن هذا الخاطر يساورنا في أثناء تأمل المعرض غير مرة، وأظن أن العزاوي نفسه ليس بعيداً عنه.
لكن المضي في تأمل اللوحات الملونة، انتهاء باللوحة النافرة من السيراميك التي انبسطت على أرض المعرض، يدعونا إلى أن لا نبالغ في ذلك. لا بد أن غرنيكا لم تكن غائبة عن خيال العزاوي وهو يباشر لوحاته، الأرجح أنه طمح إلى أن يصنع للمأساة العراقية عملاً مقابلاً. لكن العزاوي فنه كذلك، وهو كذلك أنشأ مقابل غرنيكا بيكاسو، غرنيكاه الخاصة، بل إنه صنع، في مقابلها، ما يبتعد بالتدريج عنها، ليصل هكذا إلى بصمته هو، لتتكامل روايته العزاوية في لوحاته.
تبدأ هذه الرواية، إذا جاز التعبير، بلوحة عرضية مديدة من أحمر وأسود، الأحمر بوتيرة واحدة وكذلك الأسود. الأشكال السوداء شبحية، واللوحة هي هذا الاستشباح الليلي على خلفية حمراء. هذا ما قد يبدو افتتاحاً لمعرض ما يبدو موسيقى لونية لبدايته. بعد ذلك نرى ما يستدعي غرنيكا، لوحة عرضية بالأسود والأبيض والرمادي. في اللوحة نستجلي ركاماً من أشياء، أيد، أرجل، قوائم، أجساد معلقة، جذوع حاملة كتاباً، دواليب، عجلات، وجوه، معصوبَين باديين في أعلى اللوحة… إلخ.
نعود إلى الأحمر والأسود، نحن هذه المرة أمام لوحة فيها ما يبدو موكباً، يظهر فيه أشخاص، وينقطع المشهد لنرى في آخره ما يشبه أن يكون شخصاً ممدوداً، في وسط اللوحة. هكذا نحن لا نزال في الرواية، قد تكون اللوحة الملونة المشرقة، التي تلي، فصلاً آخر. نحن بعد الدمار أمام ما يمكن أن يكون انفجاراً ضوئياً، ثم هناك، في النهاية، مدينة السيراميك المطروحة أرضاً على طول مساحة القاعة.
نحن هنا أمام مدينة في بيوتها وأدراجها ومنازلها وممراتها. إنها مدينة هذه المرة وليست ركام مدينة، مدينة وليست دمار مدينة. نحن هكذا في فصل آخر من الرواية، فصل مضاد ونهائي. بعد الإشراق الضوئي هناك مدينة حقيقية، بكل عمرانها وكل هياكلها، إنها مدينة للحياة، للبقاء. نحن هكذا في الفصل الأخير، الفصل الختامي، بل نحن هكذا تقريباً أمام مستقبل. الرواية تقف هنا، أو أننا نتخيل أنها وقفت. بدأت بالخراب الكامل، وها هي، تحت أعيننا نهضت مدينة عامرة بكل ما فيها. هنا نشعر أن المشهد انتهى وكأننا أمام لوحة واحدة، أمام غرنيكا ضياء العزاوي.