
قدم المدير العام لشبكة ( بي بي سي ) السيد تيم ديفي، ورئيسة الأخبار بالشبكة السيدة ديبورا توريس، استقالتهما من مسؤوليتهما بسبب اتهامات للشبكة بالتحيز في برنامج وثائقي بعد تعديل مقاطع من خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بطريقة اعتبرت مضللة. وقال المدير العام للشبكة في بيان نشر على الموقع الإلكتروني للشبكة “ بي بي سي ليست مثالية ويجب أن نكون دائما منفتحين وشفافين وخاضعين للمساءلة “
واضطر المسؤولان في الشبكة إلى الاستقالة بعد أسبوع على تسريب صحيفة (صنداي تلغراف) مضمون مذكرة داخلية أثارت تساؤلات بشأن الوثائقي الذي اتهم منتجوه بتجميع مقاطع وأجزاء من خطاب الرئيس الأمريكي بتاريخ السادس من شهر يناير (كانون الثاني) من سنة 2021 بما أوحى بأنه قال لمناصريه إنه سيسير معهم إلى مبنى الكابيتول و “يقاتل بشراسة “، بينما في المقطع الأصلي اكتفى الرئيس الإمريكي بالقول “سنهتف دعما لمشجعينا من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب”.ومباشرة بعد بث البرنامج هدد الرئيس الأمريكي هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي ) بمقاضاتها ومطالبتها بتعويض قدره مليار دولار، ومنح مسؤولي القناة مهلة أسبوع لسحب البرنامج الوثائقي وتقديم اعتذار عما اقترفوه في حقه.. هذه الواقعة تبدو عادية جدا في ممارسة إعلامية تبدي تشددا كبيرا فيما يتعلق بأخلاقيات مهنة الإعلام، وتقدم دروسا واضحة في الاستقلالية والموضوعية والنزاهة في أداء مهني، يبدو من حيث الشكل محصنا ضد مثل هذه الاختلالات والانزلاقات. لكنها من جهة أخرى تكشف عن تباين حد التناقض في احترام المبادئ والقيم التي ترتكز عليها الوظيفة الإعلامية في الدول الغربية، وفي اعتماد انتقائية غريبة في تنزيل هذه المبادئ، حيث يتم احترامها وتقديسها وترتيب الجزاءات في حالة الإخلال بها في بعض الحالات، بينما لا يتم تطبيق وإعمال نفس المقاربة في حالات أخرى يتم فيها الدوس على أبسط قيم ومبادئ أخلاقيات العمل الإعلامي في نفس المؤسسات الإعلامية الغربية التي تبدو متشددة في حالات مشابهة تماما.وفي هذا السياق لم يبد مسؤولو هيئة الإذاعة ( بي بي سي ) البريطانية أنفسهم أية ردة فعل تجاه الخروقات و الانتهاكات الفظيعة التي اقترفتها نفس المؤسسة الإعلامية إبان تغطيتها لحرب الإبادة الجماعية التي تخللتها جرائم صنفتها هيآت قضائية دولية ضمن جرائم الحرب، والتي تكاد تكون غير مسبوقة في التاريخ البشري الحديث، اقترفتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة، بل الأكثر من ذلك بدا آنذاك أن المسؤولين في هذه الشبكة منتشون بما ساهمت به برامج ونشرات أخبار الشبكة في التعتيم حول حقيقة الجرائم الفظيعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي من خلال التعتيم والتستر والانحياز للسردية الإسرائيلية وتحريف الحقائق.قد يكون للخوف دور في مسارعة المسؤولان في الشبكة هذه المرة إلى تقديم استقالتهما، لأن الأمر يتعلق هذه المرة برئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الحقيقة أعمق من ذلك وتتجلى في أن كثيرا من المؤسسات الإعلامية الغربية تستحضر مواثيق أخلاقيات مهنة الإعلام وقت الحاجة الملحة لذلك بما يخدم المصالح الاستراتيجية للأوساط الرأسمالية الغربية المالكة لها وبما يسير وفق السياسات الخارجية لتلك الدول، لكنها تدير لها ظهرها حينما يتعارض تطبيقها وتنزيلها مع هذه المصالح، في إطار انتقائية موجعة.وهكذا نصبح أمام حالة مرضية معقدة يصعب تحديد وصفة علاجية لها.