
تُشكّل الأهوار في جنوبي العراق واحدة من أقدم البيئات المائية المأهولة في العالم، حيث عاش الإنسان فيها منذ آلاف السنين متكئًا على الماء والقصب والسمك كمصادر حياة وثقافة. ومن بين الموروثات التي بقيت حية في ذاكرة أهل الهور هي عادات أكل السمك التي لا تقتصر على الطعام فحسب، بل تتعداه إلى طقس اجتماعي وثقافي متوارث.
السمك في ذاكرة المكان
السمك في الأهوار ليس مجرد وجبة، بل رمز للوفرة والبركة . منذ الصباح الباكر، يخرج الصيادون بزوارقهم (المشحوف) ينسجون علاقة يومية مع الماء، ومع عيونهم ترسم خبرة الأجيال في معرفة أماكن السمك ونوعه. يُعتبر السمك البلطي (الشبوط) و الگطان و البني من أكثر الأنواع المفضلة، ويُعرف الصيادون كل نوع بطعمه وسلوكه وموسمه، حتى إنهم يميزون السمك “النهري” عن “الهوري” بطعمه ورائحته.
طقوس الطبخ والأكل
من أبرز ما تشتهر به أهوار الجنوب هو السمك المسگوف، وهو ليس مجرد أكلة بل احتفال جماعي.. يوقد أهل الهور نار القصب على ضفة الماء، ويشق السمك من الظهر ثم يُفتح ويُعلق على أوتاد من الخشب أمام النار، حتى ينضج ببطء على وهج اللهب.
يتحول المكان إلى مشهد من الدفء والدخان والروائح الزكية، ويجتمع الرجال حول النار يتبادلون الأحاديث والذكريات، فيما تُقدَّم الأكلة مع الخبز الحار والشاي الملبّس.
البعد الاجتماعي والرمزي
أكل السمك عند أهل الهور فعل من الذاكرة الجمعية ، يربط الناس بالأرض والماء والأجداد.
في الأعراس، يُقدَّم السمك رمزاً للخير.
وفي الضيافة، يُعتبر إعداد السمك الكبير (الشبوط) علامة كرم.
كما أن أكل السمك يمثل تواصلاً مع الطبيعة ، لأن الإنسان في الهور يعيش وفق إيقاعها — فإذا جفّ الماء، تلاشت السمكة، وتبعها الحزن في الذاكرة الجماعية.