
في ذاكرة العراق ثمة أصوات لا تموت بل تبقى حية في وجدان الناس كأنها صدى الأهوار حين تهب عليها رياح المساء. ومن بين تلك الأصوات الخالدة يتفرد صوت الفنان سامي كمال، المطرب الذي لم يكن مجرد مغنٍ بل وثيقة حية لذاكرة العراق الفنية ومرآة لوجع الجنوب الذي أنجب الشعراء والثوار والمغنين الذين مزجوا الحزن بالكرامة والنغمة بالتمرد.
ولد سامي كمال عام 1940 في قضاء الكحلاء بمحافظة ميسان وسط عائلة بسيطة تتكئ على الكرامة والعمل والكفاح. من بين نسيج القصب والماء والعشب تفتحت أذنه على موسيقى الطبيعة الجنوبية، فحمل صوته نكهة الأرض وملوحة الدموع وشجن دجلة حين يضيق مجراه. ومع دخوله عالم الفن في سبعينيات القرن الماضي لم يكن الغناء عنده ترفاً بل موقفاً وانتماءً ورسالة، إذ سخّر صوته للفقراء والمقهورين الذين لم يملكوا سوى الأغنية وسيلةً للاحتجاج على الصمت.
ارتبط الفنان الراحل ارتباطاً روحياً وفنياً بالشاعر الكبير مظفر النواب، ذلك الثائر بالكلمة الذي جعل من القصيدة موقفاً ومصيراً. التقت روحاهما في نقطة مضيئة من تاريخ الفن العراقي حين غنى سامي كمال واحدة من أروع قصائد النواب “صويحب”، التي تجاوزت حدود الشعر لتصبح نشيداً للمقهورين وصدىً لصوت الأرض التي تسقى بالدم لا بالماء.
في قصيدة صويحب كتب مظفر النواب وجع الجنوب بحبرٍ من الدم، حين صاغ حكاية الفلاح الفقير الذي قُتل لأنه دافع عن أرضه وبستانه وعن شرفه الذي أراد الإقطاعيون سلبه. كتب النواب قصيدته بوجدانٍ يشتعل غيظاً، وجاء صوت سامي كمال ليكمل المعنى، فيغدو الصوت امتداداً للكلمة والكلمة امتداداً للصرخة.
حين يقول النواب:
صويحب من يموت المنجل يداعي
فإنه لا يرثي رجلاً واحداً بل يرثي شعباً بكامله. والمنجل هنا ليس أداةً للزرع فحسب، بل رمزاً للمقاومة وللكرامة التي لا تُحصد. بصوت سامي كمال تحوّل هذا البيت إلى ما يشبه النداء الجمعي، نداء الأرض للفلاحين ونداء الحرية ضد الذلّ. كان يغنيه بنبرةٍ تفيض وجعاً وغضباً فتختلط الدموع بالحنين ويتحول الغناء إلى موقف.
وفي مقطع آخر يقول النواب:
احاه، شوسع جرحك ما يسده الثار
يصويحب، وحگ الدم ودمك حار
تبدو اللغة هنا كتجسيد حيّ للجرح العراقي، جرحٍ لا يُشفى لأن العدالة لم تولد بعد. وجاء أداء سامي كمال لهذه الأبيات بتوازن بديع بين الشجن والقوة ، صوته ينكسر ليبكي ثم يعلو كأنه يقاتل، فيعيد للحزن معنى العزة وللألم طهارته الأولى. وهكذا غدت صويحب قصيدةً تفيض إنسانيةً وأغنيةً تغني التاريخ بالكرامة.
لقد جمع سامي كمال ومظفر النواب بين الفن الملتزم والشعر المقاوم، فكانا وجهين لعملة واحدة: الأول غنى للوطن، والثاني كتب له، وكلاهما حملا وجع الإنسان العراقي في وجه الطغيان. في زمنٍ حاولت فيه السلطة أن تصادر الصوت والكلمة خرجا معاً من وجع الناس ليصنعا موقفاً من النور، موقفاً لا يُشترى ولا يُباع.
كانت أغاني سامي كمال مثل (لبغداد)، (مشتاك)، (دكيت بابك يا وطن)، و (صويحب) أشبه برسائل خفية تهربها القلوب عبر الأثير، تحمل معاني الحرية والتمرد وتفضح الظلم بصدق الفن لا بشعارات السياسة. وحين ضاقت به المنافي ظل صوته وطناً متنقلاً في ذاكرة العراقيين، شاهداً على مرحلةٍ كانت الأغنية فيها طريقاً إلى الوعي لا إلى الشهرة.
إن الحديث عن سامي كمال ومظفر النواب هو حديث عن العراق ذاته، عن وطنٍ وُلد من رحم المعاناة وتربى على لحن الحنين وحمل في صوته وجعه الأبدي. فهما لم يكونا مجرد فنانٍ وشاعرٍ قدّما عملاً جميلاً، بل كانا مشروعين فكريين وإنسانيين اتحدا في الإيمان بأن الكلمة واللحن قادران على فضح الطغيان حين تعجز البنادق.
لقد وحدتهما الأرض وتقاطعت عندهما أوجاع الفقراء والمحرومين الذين ظلوا يزرعون الكرامة رغم الجوع. مظفر كتب وجع الجنوب بمدادٍ من الدم وسامي غناه بصوتٍ يشبه أنين القصب حين تمسه النار. وفي هذا التلاحم بين القصيدة واللحن، بين الكلمة والنغمة، وُلد فنّ لا يموت لأنه خرج من قلب الناس وإليهم يعود.
وحين نصغي اليوم إلى صويحب لا نسمع أغنيةً فحسب، بل نسمع شهادةً للتاريخ وصرخةً من رحم المظلومية، تذكرنا بأن الفلاح الذي قُتل دفاعاً عن أرضه لم يمت وحده، بل مات معه جيلٌ كامل من الحالمين بالعدالة. ومع كل نغمةٍ من صوت سامي كمال يعود صويحب حياً بيننا ينادي بالحق والكرامة، ويذكرنا أن المنجل لا يُرفع للحصاد فقط، بل يُرفع رفضاً للذلّ.
إن الفن في تجربة سامي كمال لم يكن للتسلية بل موقفاً من الحياة وانحيازاً للإنسان، بينما كان مظفر النواب ضمير الوطن الشعري الذي جعل القصيدة خندقاً من الكلمة. التقيا معاً في نقطة ضوء واحدة هي الإيمان بقدرة الفن على التغيير. ومن القصيدة خرجت شرارة الوعي، ومن اللحن وُلد الصدى الذي لا يخبو.
وإن غاب الجسدان فإن الأثر باقٍ، يتردد في المضايف والبيوت والمقاهي، حيث ما زالت أغنية سامي كمال تبكي الجنوب وتوقظه، وكلمة مظفر النواب تعلم الأجيال أن الحرية تُغنى قبل أن تُنتزع.
سلاماً على صوتٍ غنى للكرامة، وشاعراً كتب للإنسان ..