رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
شعلة سراييفو الأبدية


المشاهدات 1542
تاريخ الإضافة 2025/11/02 - 9:17 PM
آخر تحديث 2025/11/07 - 8:53 AM

 عند نهاية شارع فرهاديا الشهير في قلب سراييفو القديمة، يقف الزائر متأملاً أمام مشهدٍ تختلط فيه ذاكرة الحرب برائحة السلام. إنه لهب سراييفو الأبدي، تلك الشعلة التي لم تنطفئ منذ إشعالها في السادس من نيسان/ أبريل عام 1946، في الذكرى الأولى لتحرير المدينة من الاحتلال النازي إبّان الحرب العالمية الثانية.
يقع النصب في بوابة حجرية ضخمة تابعة لمبنى تاريخي على الطريق الواصل بين شارع مارشال تيتو والمدينة القديمة. وتعلو الشعلةَ كتاباتٌ محفورة في الحجر بلغة البوسنة والهرسك تُخلِّد ذكرى المقاتلين والمدنيين الذين سقطوا في سبيل الحرية: « بشجاعةٍ ودماءٍ مشتركةٍ أُريقت من قِبل مقاتلي ألوية البوسنة والهرسك، والكروات، والجبل الأسود، والصرب، في الجيش اليوغوسلافي المجيد، وبالجهود المشتركة وتضحيات الوطنيين السرايفويين ـ من الصرب والمسلمين والكروات ـ تم تحرير سراييفو، العاصمة الرئيسة لجمهورية بوسنة والهرسك الشعبية، في السادس من أبريل عام 1945».
ومن يتأمل النصب يدرك أنّ هذه المدينة لم تخرج من رحم التاريخ عبثاً. فهي التي انطلقت منها شرارة الحرب العالمية الأولى باغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية - المجرية عام 1914، وهي التي عانت من الحروب اليوغسلافية في التسعينيات، وتحمّلت حصاراً دام أكثر من ألف يوم. إنّ كل حجرٍ في سراييفو يحمل قصة بقاءٍ لا تُنسى. وإن كانت هذه الشعلة قد أُوقدت لذكرى شهداء الحرب العالمية الثانية، فإنها اليوم تخاطب ذاكرة الحصار الحديث، وتذكِّر الأجيال بأنّ المدينة التي قاومت مرتين قادرة على النهوض دائماً. 
ويًعدّ المكان نقطة توقفٍ رئيسة للزوار والسائحين. يقف الناس بصمتٍ أمام الشعلة، يلتقط بعضهم الصور، ويقرأ الآخرون النص كاملاً، غير أنّ الجميع يشعر بشيء يتجاوز المشهد: خشوعٌ أمام معنى التضحية، ومهابةٌ حيال تاريخٍ كُتب بالدم والصبر. حتى الأبنية المحيطة بالنصب تحمل آثار الزمن، فشقوقٌ وتصدعاتٌ في الحجر تروي قصة قنابل ورصاص مرّ من هنا يوماً، لكنهُ لم يُطفئ الروح، ولم يمنع الحياة من أن تنبض مجدداً في شارع فرهاديا، المكتظ اليوم بالمحلات والمقاهي والسياح. 
ولأنّ النصب يقع في نقطة مفصلية بين المدينة القديمة وطابع سراييفو النمساوي ـ المجري الحديث، يصبح المشهد تجسيداً لعلاقة فريدة بين ماضي البلقان العثماني وتراثه الأوروبي، وبين الذاكرة المعمارية والذاكرة الوطنية.
إنّ لهب سراييفو الأبدي ليس مجرد نار تتّقد في وعاء رخامي أخضر، بل هو نور يُبقي ذاكرة الحرية حية، ويهمس لكل عابر سبيل: هنا سقط رجال ونساء كي تستمر المدينة، وتظلُ أبوابها مفتوحة على الحياة، بفضل بطولة أبنائها من الصرب والمسلمين البوشناق والكروات، يوم كانوا شعباً واحداً يقاوم الاحتلال النازي جنباً إلى جنب، قبل أن تمزقهم حرب التسعينيات .
 


تابعنا على
تصميم وتطوير