رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
سراييفو... قدس أوروبا وأيقونة التعايش بين الأديان


المشاهدات 1407
تاريخ الإضافة 2025/10/28 - 9:25 PM
آخر تحديث 2025/10/31 - 4:38 PM

عندما بدأت طائرة الخطوط الجوية التركية القادمة من إسطنبول بالهبوط في مطار سراييفو قبيل حلول الظلام، ألقيتُ نظرة من النافذة على تلك الجبال والوديان الخضراء التي تحيط بالمدينة من كل جانب...

وفي وسط هذا المشهد الطبيعي الخّلاب، تتلألأ دررٌ تاريخية من المباني والجوامع والكنائس، التي سيكتشفها الزائر لاحقاً وهو يتجول في شوارع المدينة القديمة وأطرافها. ولا غرابة أن توصف سراييفو بـ « قدس أوروبا»، فهي المدينة التي تتعايش فيها مختلف الأديان السماوية، وتتجاور فيها المآذن والأجراس في جو من التفاهم والتسامح والتقبل بين أبناء الوطن الواحد. أصرًّ مضيفي أيمن الذي وجدته في استقبالي، على ألّا أخلد إلى الراحة في فلّته المؤجَّرة الجميلة وسط حي إليجا الهادئ المجاور لمطار سراييفو الصغير، وحفّزني - وأنا بملابس السفر- على الذهاب إلى المدينة القديمة باشجارشيا قبل أن تُغلق محالها عند منتصف الليل أو قبله بساعة، والمهم قبل أن تُغلق مطاعمها الشعبية المُميزة التي تقدم طبق « التشيفابي»، وهو من أشهر أنواع الكباب في البوسنة والهرسك. 
كانت شوارع السوق القديم المرصوفة بالحجر، وطراز الأبنية، تحمل طابع العمارة العثمانية العريقة. ومن أبرز معالمها الجامع الكبير المسمى جامع الغازي خسرو بك، حاكم ولاية البوسنة الذي أمر ببنائه عام 1530 م في قلب البازار القديم كأحد أبرز المعالم المعمارية الإسلامية في البوسنة والهرسك، مثل جوهرة إسلامية وسط المدينة، وفي محيطه يقف برج الساعة التاريخي الذي يعمل وفق التوقيت القمري الإسلامي. وكان هذا البرج يُستخدم ليُظهِر أن لحظة غُروب الشمس هي الساعة الثانية عشرة، أي أن العدَّ الزمني يبدأ من الغروب، انسجاماً مع  التقويم الهجري. ويضم المجمع الوقفي أيضاً المدرسة الدينية ومكتبة الغازي خسرو بك التي تحتوي على أكثر من عشرة آلاف مخطوطة، نجا الكثير منها خلال الحصار الذي تعرضت له سراييفو بين عامي 1992 و1995، إذ جرى إخفاؤها ونقلها مرات عدة، مع عناية خاصة لأكثر من 500 مخطوطة قيّمة حُفظت في خزائن مُحصَّنة.  ومن أبرز هذه الكنوز: « إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي، وهو أقدم مخطوط في المكتبة، وديوان حافظ الشيرازي بالفارسية. ومخطوطات نادرة في الفلك والطب، فضلاُ عن نسخٍ مزخرفة من المصاحف الشريفة. كما تحتوي المكتبة على أرشيفات وثائقية تشمل وثائق باللغتين التركية والعثمانية القديمة، إضافة إلى البوسنية. وفي عام 2017  اُدرجت مجموعة المخطوطات التابعة لهذه المكتبة ضمن سجل ذاكرة العالم « Memory of the World « التابع لليونسكو، تقديراً لأهميتها الثقافية والعلمية. جامع الغازي خسرو بك في المدينة القديمة بسراييفو ليس مجرد مكان للعبادة، بل هو مركز حضاري وثقافي وتعليمي متكامل، يجمع بين الجمال المعماري، والإيمان، والعلم، والتراث. أما الساعة التاريخية التي تعمل بالتوقيت القمري، فتمنحه طابعًا فريدًا يعكس الارتباط العميق بين الزمان الديني والواقع المعماري. والمدرسة التابعة له تُعدّ من صروح التعليم الإسلامي المستمر عبر القرون، فيما تظل المكتبة التي تحتضن آلاف المخطوطات والكتب خزينة فريدة للتراث الإسلامي والفكري في عموم دول البلقان.
تُلقَّب سراييفو بـ «قدس أوروبا»، للدلالة على أنها مثل القدس الشرقية، مدينة مقدسة تعددية، عانت من الحروب والويلات والانقسامات، لكنها ظلّت رمزاً للأمل والسلام. وعندما زار البابا يوحنا بولس الثاني المدينة بعد انتهاء الحرب البوسنية بعامين، أشاد بشجاعة سكانها وتعايشهم قائلاً : سراييفو مدينة الشهادة والإيمان، مدينة الأمل التي تذكرنا بأن السلام ممكن بين أبناء الديانات جميعاً. في اليوم الثاني لوصولي إلى سراييفو، اصطحبني أيمن إلى المدينة القديمة التي قطعنا شوارعها مشياً على الأقدام. إنها مكان فريد في العالم، إذ يلاحظ الزائر تجاور دور العبادة للأديان السماوية الثلاثة، مما يعكس نموذجاً نادراً للتسامح والتعدد الثقافي والديني في أوروبا. ففي قلب المدينة يقع جامع الغازي خسرو بك الذي حدثتكم عنه في الحلقة السابقة، بوصفه جوهرة إسلامية في سراييفو. وعلى مقربة توجد أقدم الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية، وكذلك الكنيس اليهودي القديم الذي تحول اليوم إلى متحف. وقد سَمح العثمانيون لليهود الذين طُردوا من الاندلس أواخر القرن الخامس عشر بالاستقرار في عاصمة البوسنة والهرسك، لتصبح المدينة بوتقةً تنصهر فيها أعراقٌ وأديانٌ شتّى: الأتراك، والبوشناق المسلمون، والكروات الكاثوليك، والصرب الأرثوذكس، واليهود السفارديم الذين نزحوا إليها بعد سقوط غرناطة سنة 1492 م. وتُعد كاتدرائية قلب يسوع المقدس، التي تقع بالقرب من شارع فرهادية Ferhadija  أحد أشهر الشوارع التاريخية المخصّصة للمشاة في منطقة الأسواق القديمة باشجارشيا، من أبرز رموز التعايش الديني في سراييفو. وقد وُضع الحجر الأساس لهذه الكنيسة عام 1884م أثناء الحكم النمساوي – المجري للبوسنة، واكتمل بناؤها بعد خمس سنوات، لتُفتتح رسمياً سنة 1889م. بُنيت الكاتدرائية على الطراز القوطي الجديد الذي ساد أوروبا آنذاك، ويمتاز بالأبراج والقمم الحادة، والنوافذ المقوَّسة والمزخرفة، واستخدام الحجر الطبيعي بدرجاته الرمادية أو الفاتحة التي تضفي على البناء وقاراً وهيبة. وتتكون الكنيسة من برجين توأمين يرمزان إلى الصعود الروحي، وفي وسط الواجهة نافذة وردية تمثل قلب يسوع المقدس. ومما يلفت النظر التمثال البارز للبابا يوحنا بولس الثاني أمام الكاتدرائية، وهو مصنوع من الألمنيوم المقاوم للصدأ، يبلغ ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار. يخلّد التمثال زيارة البابا التاريخية لسراييفو يومي 12 و 13 نيسان/أبريل 1997 بعد انتهاء الحرب البوسنية، إذ خاطب الحضور في مطار سراييفو قائلاً إنه جاء ليؤازر الذين عانوا من ويلات الحرب، مؤكداً أن لهم مكانة خاصة في قلبه. وفي كلمته الوداعية قال: «أود أن أذكركم مجدداً، أن السلام لا يُبنى بالقوة والدم، بل بالحب والتضحية والتسامح». صادفت زيارتي لسراييفو منتصف شهر حزيران، مع انتهاء السنة الدراسية الجامعية، فتوافد مئات الطلبة مع زملائهم وعوائلهم لالتقاط الصور التذكارية أمام الكنيسة وقرب تمثال البابا يوحنا بولس الثاني، وكأنه يبارك لهم تخرّجهم. ذلك البابا الذي قال إنه توجه بفكره إلى الله، شاكراً إيّاه أن وهبه تحقيق أمنيته القديمة بالقدوم إلى سراييفو، بعد أن شارك عن بُعدٍ آلام معاناتها خلال سنوات الصراع المأساوية. وإذا كانت سراييفو تُلقَّب بـ « قدس أوروبا»، فإن الشارع الرئيس في المدينة القديمة باشجارشيا يختصر هذه التسمية بكل أبعادها الثقافية والعمرانية، وبكل ما تنطوي عليه من مفاهيم التعايش والتسامح بين مختلف المكونات الدينية والمذهبية. إنه شارع مخصص للمشاة الذين تستهويهم الأسواق والمحال التراثية والمطاعم والمقاهي الشعبية، فضلاً عن أنه يجسد فكرة التعايش واقعاً حياً، حيث تتجاور فيه أماكن العبادة التاريخية. ففي وسطه يقع جامع الغازي خسرو بك، وعلى مسافة لا تتجاوز خمس دقائق سيراً على الأقدام تقع كاتدرائية يسوع المقدّس، وبالقرب منهما، على شارع يحمل اسم ملا مصطفى باشسكيَّة - وهو أديب ومؤرخ بوسني عثماني عاش في القرن الثامن عشر- تقوم أقدم كنيسة أرثوذكسية في سراييفو، تحمل اسم القدّيسَين رئيسَي الملائكة ميخائيل وجبرائيل – هكذا هو اسمها- لكن تترجم أحياناً بكنيسة الأرشلانجيل مايكل وجابرييل. هكذا هو اسمها الرسمي، غير أنها تُترجم أحياناً إلى الإنكليزية بـ «كنيسة الأرشلانجيل مايكل وجابرييل». وكلمة أرشلانجيل مأخوذة من أصل يوناني، وتتكون من مقطعين، رئيس أو قائد، وملاك أو رسول، فيصبح المعنى الحرفي للكلمة رئيس أو قائد الملائكة. وتحمل هذه التسمية دلالات لاهوتية عميقة في اللغة اليونانية، واللاهوت المسيحي. يعود تاريخ هذه الكنيسة الأرثوذكسية القديمة إلى عام 1539م، وبذلك تُعدّ من أقدم بيوت العبادة في المدينة. وقد خضع هيكلها الحالي لترميمات عديدة، كان أخرها قبل نحو ثلاثة قرون. وهي اليوم مفتوحة للزوار والسياح طيلة أيام الأسبوع مجاناً، غير أن زيارة المتحف التابع للكنيسة - وهو من أهم المتاحف الأرثوذكسية في أوروبا- تتطلب الحصول على تذكرة بأسعار رمزية. يضم المتحف أكثر من 700 قطعة أثرية من المعروضات، من بينها أيقونات نادرة تمثل خامس أكبر مجموعة أيقونات في العالم، تجمع بين التأثيرين الشرقي الأرثوذكسي والغربي الكاثوليكي. ومن أبرزها أيقونات رئيسَي الملائكة « الأرشلانجيل»، والقديس سَنت سافا الصربي، إلى جانب مجموعة من اللوحات والجداريات المذهّبة، أبرزها لوحة تمثل السيد المسيح ومريم العذراء والقديسين والملائكة. كما يحتوي المتحف على مخطوطات وكتب قديمة، وأقمشة وملابس كهنوتية، وأدوات فضية ومعدنية كأطباق القربان والقلائد والأجراس، فضلاً عن أسلحة قديمة وعملات وحُليّ وأدوات طقسية تعبر عن ثراء الموروث الكنسي في سراييفو. ومن أقدم المطبوعات المحفوظة في المتحف كتاب يعود إلى القرن الرابع عشر بعنوان « قانون سراييفو»، مكتوب على رقّ من الجلد، ويُعدّ أول تشريع للكنيسة الصربية الأرثوذكسية، وضعه القديس سَنت سافا، أول مطران مستقل لكنيسة صربيا عام 1219 م، ويُعرف القانون أيضاً باسم « قانون سَنت سافا».  
إن التجوال داخل الكنيسة والمتحف في حد ذاته، يُعدّ رحلة في التاريخ الروحي والمعماري لمدينة شهدت صراعاتٍ وحروباً طويلة، انتهت إلى تعايش سلمي رائع بين مكوناتها المتعددة. وقد ترى على جدران هذا المبنى أو ذاك آثار الماضي وبصماته المنقوشة برصاص الحرب وشظاياها، ومنها البرج الحجري القديم لمبنى الأرشلانجيل الذي يعلوه صليب معدني. فالكنيسة، مثل غيرها من المباني الدينية في المدينة، أصيبت جزئياً بالقصف خلال حصار سراييفو بين عامي 1992 و1995، ولا تزال تلك الندوب شاهداً على ما خلّفته الحرب من وجعٍ على جدران « قدس أوروبا».


تابعنا على
تصميم وتطوير