رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
العراقي وصراع الهوية في هولندا


المشاهدات 2356
تاريخ الإضافة 2025/07/28 - 9:00 PM
آخر تحديث 2025/08/07 - 11:20 AM

نزوحاً من أرض الفراتين في العراق، ونزولاً عند قنوات المياه الهادئة في أمستردام، وأحياء الشتات في لاهاي وروتردام من هولندا، يعيش الآلاف من العراقيين حياةً مزدوجةً بين واقع جديد يفرض قوانينه، وذاكرة وطن لا تزال حية تنعش ظلالها القلوب رغم الغياب.
هنا في هولندا، تشكّلت جاليةٌ عراقيةٌ كبيرة متنوعة، تختلف أصولها الدينية والسياسية، لكنها تتقاطع في همّ واحد اسمه العراق، وسؤالٍ فريد جوهره الهوية، وتحدياتٍ وعرةٍ دليلها الاغتراب.
بدأت فصول الحكاية عند مطلع التسعينيات من القرن الماضي الذي شهد موجات غفيرة من اللاجئين العراقيين، حينما انقطعت سبلُ العيش أمامهم، بعد حربين لا ثالث لهما في الموت والدمار. الأولى 1980 استمرت 8 سنوات كأطول حربٍ في القرن العشرين بين بلدين. والثانية 1991 امام اكبر تحالف دولي  في التاريخ، 34 دولة. لتخلف وراءهما هاتان الحربان دماراً قل مثيلهُ وخراباً لا يمكن احصاؤه. في الاثناء، قرر عراقيون ممن سنحت لهم فرصة المغادرة من ركوب موجة الرحيل إلى الخارج، لتكون هولندا واحدة من تلك الدول التي استقبلت بضعة آلاف منهم. وتستمر مجريات الحكاية فيتضاعف عددهم ليبلغوا، حسب البيانات ما بين 66-70 ألف شخص. غالبيتهم من الشباب، وتتركز الفئة العمرية 26-45 عاماً.
 واقع التعايش مع اللغة الجديدة 
العائلات العراقية من الجيل الأول أو قل القادمين الأوائل في هولندا تتحدث العربية (اللهجة العراقية الدارجة) أو الكردية (السورانية والكرمانجية)، أو التركية (لهجة تركمان العراق)، أو ربما الآرامية (كلدانية  كانت أو مندائية). وهذا ما يعدهم المصدر الأساسي لأبنائهم، ألا وهم الجيل الثاني، في اتقانهم للغة الموطن الاصلي العراق. ولكن هذه الإمكانية تأخذ بالانحسار لدى الجيل الثاني شيئا فشيئاً. فالابن عندما يستقل عن والديه ويكوّن أسرته الخاصة، يرافق لغة المنزل العربية، اللغة الهولندية. ما يفوّت على أطفاله أي الجيل الثالث فرصة  اكتساب لغة عربية خالصة، ما يضطره بالتالي لإرسالهم إلى مدارس عربية لسد هذه الثغرة. الأمر الذي قد يتكرر او يزداد ربما مع الجيل الثالث حين ينشأ ويولد له أبناء وهكذا دواليك. ويعود هذا التراجع والقصور في لغة العراق حصيلة الواقع الدراسي في هولندا، فالأطفال يرتادون المدارس بمعدل ست ساعات في اليوم، على مدار خمسة أيام في الأسبوع، ما يجعل اللغة الهولندية هي المهيمنة دون سواها من لغة الوالدين، ما يحمل الطفل على التحدث بها طيلة يومهِ حتى مع والديه في المنزل. وهذا ما لم يكن مسموحا به لدى الأبوين من الجيل الاول، لأسباب اولها ان التصاق الثقافة والهوية العراقية لا يزال قوياً لديهم، وكذلك عدم اتقانهما اللغة الجديدة بعد، ما يحتم على الأبناء الجيل الثاني التحدث بالعراقية رغم صعوبة ذلك. بعض الأطفال يستسيغ الواقع فيجيد اللغتين ما يزخرف موهبته اللغوية ويفتح أمامه أفقاً ثقافياً ووظيفياً أيضا. في حين يجد البعض الآخر صعوبة تلازمه حتى مرحلة متأخرة، مفضلاً الاكتفاء بالهولندية لغةً أساس على حساب اللغة الأم كالعربية مثلاً، رغم الأهمية الكبيرة لهذه اللغة في إرساء روح القيم لدى الأبناء ناهيك انها لغة القرآن الكريم، مغايراً بذلك رغبة الوالدين. فالابناء يندمجون أكثر في المجتمع الهولندي، بينما الأبوان يجدون أنفسهم عند مفترق طرقٍ، بين الهوية الأصلية والحياة الجديدة. وبطبيعة الحال فإن الاحفاد او قل الجيل الثالث، يتقنون الهولندية أكثر من العربية، ما يؤدي إلى فجوة لغوية وتربوية بين الاجداد والاحفاد. فيلاحظ ضعف قدرة التواصل لدى الأطفال للتعبير العاطفي أو الثقافي فيما بينهم وبين أجدادهم، مما يؤدي إلى ازدواج لغوي غير متزن. وبالتأكيد لكل قاعدةٍ شواذ فهناك من الأسر ممن اتقن ابناؤها اللغة الأم ولغة المهجر على حدٍ سواء، وتضاف اليهما لغات حية اخرى، تعزز من موقعهم الدراسي والوظيفي ايضاً.
التعليم بين الواقع والطموح
يعرف العراقيون كونهم من الجاليات ذات معدل تعليم مرتفع ومهن احترافية مقارنة ببعض الجاليات الأخرى في هولندا. حيث يعزو البعض ان هذا يعود الى  طبيعة العراقي  الطموحة التي تتسم بشئيء من النرجسية والتي قد يترجمها الفرد العراقي بميوله إلى حث أبنائه على التفوق الدراسي. فنسبة الحاصلين على شهادات جامعية تصل نحو 54 ٪ من أفراد الجالية، فيما يحمل 21 ٪ منهم شهادات نالوها من جامعات في هولندا. ورغم أن هذه الإحصائيات ليست رسمية لكنها الأقرب إلى أرض الواقع. فالكثير من العراقيين يرغبون في أن يصبح أبناؤهم في مقاعد دراسية مرموقة، لأنهم يرون في التعليم وسيلة للارتقاء. في المقابل، نظام التعليم الهولندي يعتمد على توجيه مبكر حسب قدرات الطفل، ويتقبل أكثر المسارات تنوعاً. بمعنى أن التعليم المهني يشغل مساحة مهمة جدا في سوق العمل في هولندا، عكس الشائع في العراق حيث تعد المعاهد واعداديات التجارة والصناعة، في مراتب متأخرة عملياً واجتماعياً. ففي العراق، الرغبة الشائعة لدى الآباء والأبناء هي الكليات فقط، وعلى وجه الخصوص الطب والهندسة. في هولندا فإن هذه القناعة التي اصطحبها الآباء معهم من العراق، تؤدي أحيانا إلى ضغط نفسي على الطفل إذا لم يكن أداؤه الدراسي يوافق طموحات الأهل، ما يستوجب على الطفل أن يضاعف ساعات دراسته حسب رغبة الأبوين، وهذا ما لم تجده لدى طبيعة الاسرة الهولندية. ففي الثقافة العراقية السلطة الأبوية التقليدية تعتمد على احترام الكبير والرضوخ لإرادته. ورجوع القرارات المصيرية للأب مهما كبر الابناء او استقروا في حياتهم. وهذا ما قد يجده المجتمع العراقي صمام الأمان للأسرة وثباتها. في الثقافة الهولندية شيء آخر، فالحوار والمشاركة في القرارات أساس التربية. فليس بالضرورة أن يوافق  قرار الابن ما يراه الأب. وهذا ما يخلق نوعا من الارتباك لدى الناشئ العراقي الذي ولد في هولندا. فالطفل يتعامل بحرية أكثر في المدرسة ويُسمع لآرائه بعناية، فيما يتطلب منه الصمت والطاعة في البيت. بعض الآباء يعانون من صعوبة في فرض أسلوبهم التقليدي خوفا من تدخل السلطات الهولندية إذا ما اتُّهموا بـ»التربية الصارمة» أو «الإهمال».
آثار رافدينية في بلاد المهجر
 ومن بين مكونات هذه الجالية العراقية برزت أسماءٌ مهمة في الجانب الثقافي والفني والعلمي وبشكل كبير. فمنهم السينمائي والكاتب قاسم حول والرسامان التشكيليان قاسم الساعدي وستار كاووش، والشاعر عبدالرحمن الماجدي. ناهيك عن مصممين وأكاديميين وأدباء وفنانين اخرين. وما يميز هؤلاء وغيرهم في المجتمع الهولندي انهم يحملون طاقاتٍ ثرية، نمت بذرتها في العراق وأينعت في المهجر. واستثمر بعضهم  وجودهم في هولندا لخدمة الصالح العراقي كحفظ تاريخ العراق، حين عقدت شخصيات عراقية في مدينة روتردام، وبدعم من منظمة اليونسكو فرع العراق، ندوة لمناقشة تأريخ العراق المصور والمستهدف للتهجير بحضور للجالية العراقية وسفارة جمهورية العراق في هولندا وأعضاء السلك الدبلوماسي العربي.
 ورغم أن عراقيي الجيل الأول قد شهدوا انقلاباً لا نظير له في حياتهم حين أقبلوا على مجتمعٍ مغايرٍ كلياً عن محيطهم الاول، بل وحرموا لعشرات السنين من زيارة العراق او حتى لقاء اهاليهم، إلا أن هؤلاء بقوا محتفظين بعاداتهم العراقية مثل الاحتفال بالمناسبات، الطعام، والطقوس الدينية. ولكن هذا لا يعني انتفاء تأثير البلد البديل هولندا  على طبيعة ثقافتهم. ما يفضي بتغيرٍ تدريجي في السلوك اليومي، والملابس، والعلاقات الاجتماعية. ولكن يبقى عموماً محافظاً على أساسياته التي اصطحبها معه من العراق. ومنها كيفية تربية الأبناء. فإن تربية الأطفال بين الهويتين (العراقية والهولندية) من أبرز التحديات التي تواجه العائلات العراقية المهاجرة إلى هولندا. هذه العملية غالبًا ما تكون معقّدة ومتداخلة، إذ يحاول الأهل الموازنة بين الحفاظ على قيمهم وتقاليدهم الأصلية، وبين ضرورة الاندماج في المجتمع الهولندي لللحاق بركب الدراسة والعمل. وفي إطار بحثنا هذا كانت لنا وقفة مع مؤسسة  شباب أهل البيت في هولندا، وعضو الهيئة الإدارية لديها الشاب مجتبى الحسني الذي أتم دراسة الماجستير في كلية الصيدلة بهولندا اختصاص صيدلة عام.
#  بداية حدثنا عن مؤسسة شباب اهل البيت، وما دورها لدى شباب المهجر؟
مؤسسة شباب أهل البيت مؤسسة هولندية تأسست عام 2007, وهي مؤسسة تواكب نبض شباب الجالية في هولندا  وترعى مسار اندماجهم الاجتماعي والثقافي مع الحفاظ على الهوية الدينية. نقيم جلسات توعوية وتتخللها حلقات نقاش ليس بالضرورة أن تنتهي بالاتفاق المطلق لدى الحضور ولكن نخرج بجو من الالفة وتقبل الاخر، وهذا ما نحن جئنا من أجله.
#  هل تمكن الشاب العراقي في هولندا من إثبات ذاته؟
بالتأكيد لقد بلغ العراقي في هولندا أرفع درجات النجاح والتفوق رغم التحديات التي تواجه كل شاب ترجع أصوله خارج هولندا. ونحن كمؤسسة لدينا تنسيق دائم مع العديد من المؤسسات سواء عراقية او جنسيات اخرى لتسخير المطبات التي قد يلاقيها الشاب  في مرحلة  من مراحله. كما نحث الشباب لدينا دائماً في تعزيز التواصل مع المؤسسات العراقية في هولندا كـ «مؤسسة الكوثر الثقافية» و»الجمعية الثقافية في دودرخت» وغيرهما من التجمعات حرصا لتعزيز الهوية الوطنية العراقية لديه ودعماً للاندماج في المجتمع الهولندي ونجاحه فيه. ونحاول بين الحين والآخر تجميع اكبر قدر من الشباب لتنظيم رحلات ترفيهية أو تجمعات خارج النطاق الرسمي، ونقصد أماكن عامة. فيخلق هذا التجمع حالة فريدة من الاندهاش لدى المارة من المواطنين الهولنديين. ففي احد أيام احتفالات رأس السنة الميلادية في هولندا وعند إحدى الساحات العامة، اهدينا لكل من يمر بنا وردة. وبلغ عددها ألف وردة. وتكرر الموقف ثلاث مرات. وارفقنا مع كل وردة قصاصة ورقة، كتب عليها سرد مبسط عن رؤية الاسلام للسيد المسيح وأحاديث نبوية او أقوال للامام علي. وهذا ما لاقى استحسانا لدى الهولنديين وتساؤلات عنا نحن الشباب وإلى أي خلفية ثقافية تعود أصولنا. كما جمعتنا حلقات ثقافية مع مؤسسات مسيحية هولندية، وكشفنا لهم كشباب الضبابية التي تخيم على الإسلام لديهم، وعن الاواصر السماوية والانسانية التي تربطنا معاً. كما نظمنا زيارات لمرضى راقدين في مستشفيات لمدن هولندية شتى، لزرع روح الالفة بيننا نحن القادمين من خارج هذا البلد والهولنديين أنفسهم. ويحدث هذا لردء الصدع بيننا نحن الجاليات المسلمة سواء العراقية أو غيرها وبين المجتمعات الاوربية، الصدع الذي أحدثته أعمال لا تمت للإسلام بصلة.
#  ما  دوركم في الحفاظ على الهوية الثقافية العراقية لدى الشباب؟
قد يكون هذا الدور من أولوياتنا في المؤسسة وتأتي بعدة وسائل وطرق منها على سبيل المثال، ايكال مهمة لمن يتمكن منا لزيارة العراق ان يوثق رحلته بصور ثابتة ومقاطع فديو وتعميمها إلى كل أعضاء المؤسسة ممن لم يزر العراق بعد، لتشكل له رؤية واضحة عن العراق والأجواء الجميلة والايمانية التي قد يعيشها حال قصد المراقد المقدسة ونجد هذه الطريقة الامثل في زرع أواصر الارتباط بالعراق الذي نتشرف اننا قدمنا منه. 
العراقي المسلم والتحدي الأكبر في إرضاء المجتمع
«هل أنا عراقي أم هولندي؟» سؤال يكبر وتتمدد جذوره لدى الأطفال العراقيين يوما بعد الآخر وسنة بعد الأخرى، ليصل أوجه عند سن المراهقة. يراوده هذا التساؤل في حين تجده في قرارة نفسه معتزاً بهوية آبائه، مفتخراً بعراقيته. لكن في بعض الأحيان يصبح الامر اكثر تعقيداً، ويتطلب إدراكاً وفهماً لماهية هذه الثقافة او ذلك الدين. فمعظم العراقيين، آباء وأمهات، يتمسكون على سبيل المثال بالحشمة والملابس التقليدية للبنات، مثل الحجاب أو ملابس غير ضيقة. فالمراهقات على وجه الخصوص، يتعرضن لضغوط من المحيط لاتباع موضة المجتمع الهولندي، هذا قد يخلق صراع هويات، خصوصا بين الفتيات اللواتي يشعرن بأن عليهن إرضاء الأسرة والمجتمع في آنٍ واحد.  فيتردد في خلجات الفتاة ربما «لماذا يعاملني الهولنديون أحيانا كأجنبية وافدة رغم أنني ولدت هنا واحمل جنسية البلد؟» «ولماذا يراني أهلي هولندية أكثر من اللازم؟». هذا يؤدي إلى ما يعرف بـ»صدمة الهوية الثانية»، حيث يتخلى الطفل أحيانا عن جانبٍ من هويته ليشعر بالقبول.  وقد يتعرض البالغ للموقف نفسه أيضاً حرصا منه للقبول في وظيفة ما مثلا. وفي خضم هذا التحدي المستمر، يبقى الشاب العراقي والمسلم على وجه الخصوص في هولندا واقفاً على خط رفيع بين جذوره وهويته من جهة، ومتطلبات الاندماج والانفتاح من جهة أخرى.  ليس عليه أن يذوب في ثقافة لا تمثله تماما، ولا أن ينغلق على ذاته خوفا من فقدان هويته. وإن لم يكن الأمر بهذه السهولة إلا ان عليه الاتزان، وأن يحمل دينه وقيمه بتفاهمٍ واعتزاز، وان يقدّم صورته الحقيقية بروح الاحترام والانفتاح لهذا البلد الذي احتضن والديه في يوم ضاقت عليهما أفق الأرض والسماء. وعليه يكون هذا الشاب جسرا لا حاجزاً، وأنموذجا يحتذى به في التعايش، لا غريبا عن الطرفين.


تابعنا على
تصميم وتطوير