في عالم تتسارع فيه الصور وتخبو فيه التفاصيل، يظل النحت فناً يتحدى الزمن، ويعيد للكتلة صداها الإنساني. في هذا الحوار، نقترب من تجربة نحات عراقي استطاع أن يحول فضوله تجاه الخشب والطين إلى صوت فني نابض بالكرامة والحس.
رحلة بدأت من ورشة نجارة، لتصل إلى خشبة التتويج بجائزة الإبداع، وتمر بمحطات مليئة بالتجريب، والتأمل، والرمزية.
بين المرأة والخيول، بين التعبير والتجريد، وبين التحديات الاقتصادية وشغف الفن، يفتح لنا هذا الفنان قلبه وتفاصيل تجربته الثرية.
* كيف بدأت علاقتك مع فن النحت، وهل تتذكر أول عمل أنجزته؟
ـ بدايتي مع النحت كانت مدفوعة بفضول صادق تجاه الكتلة الصامتة. لم أكن أمتلك أدوات متقنة، لكن قطعة من الخشب أو الطين كانت تثير في داخلي رغبة خفية في التشكيل. كنت أتساءل كيف يمكن للجماد أن يتحول إلى عمل ينبض بالحياة والمشاعر. بدأت بخطوات بسيطة، مستخدماً قطعاً خشبية داخل ورشة النجارة الخاصة بوالدي، والذي كان يحمل في داخله شيئاً من الحس الفني. قلدت عملاً نحتياً رأيته في مجلة، فنال إعجابه، والمفارقة أن أحد زبائنه اشتراه، مما ولّد في داخلي حماسة دفعتني للاستمرار. ومن هنا بدأت رحلتي كنحات، رحلة ما تزال مستمرة، مليئة بالتحديات، لكنها تمنحني المعنى .
* ما الذي جذبك إلى فن النحت دون غيره من الفنون التشكيلية؟
- ما جذبني إلى النحت هو العلاقة الحسية المباشرة مع المادة. النحت ليس رؤية فقط، بل هو ملامسة، مقاومة، وحوار جسدي مع الكتلة. في الرسم، ثمة فرشاة تفصلني عن السطح، أما في النحت، فأنا أغوص في الكتلة، أتعامل مع صلابتها وليونتها. النحت يمنحني إحساساً بالزمن؛ كل قطعة تحمل أثر اللمسات وكأنها سجل .
* كيف أثّرت دراستك في معهد الفنون الجميلة على تطورك الفني؟
ـ التحاقي بالمعهد والحصول على دبلوم عالٍ شكّل نقطة تحول حاسمة. لم تكن الدراسة مجرد تحصيل أكاديمي، بل مساحة لصقل الموهبة. تعلّمت فيها الأسس العلمية للنحت، من التشريح إلى التعامل مع خامات كالحجر والخشب والطين والبرونز. هذا التنوع علّمني كيف أختار المادة المناسبة لكل فكرة وأطوّعها لخدمة التعبير الفني. بيئة المعهد المشجعة ساعدتني على التجريب وتعلمت من أخطائي كثيرا.ً
* ماذا مثّلت لك جائزة الإبداع عام 2014؟
ـ تلك الجائزة لم تكن مجرد تكريم لعمل فني، بل لحظة اعتراف بمسار طويل من الشغف والتطور. منحتني دفعة معنوية كبيرة، وأكدت أن الرحلة كلها كانت موضع تقدير. مهنياً، فتحت لي أبواباً جديدة، وزادت من ثقتي بأسلوبي الفني، ووسّعت من حضوري في الأوساط الثقافية ..
* ما قصة العمل الفائز «امرأة واقفة»؟
«ـ امرأة واقفة» هو من الأعمال الأقرب إلى قلبي. استلهمته من فكرة الكرامة الكامنة في الصمت، من المرأة ككيان إنساني لا كجسد. جسّدت المرأة شامخة تنظر إلى الأمام بلا انحناء، في تعبير عن الصبر والصمود. فنياً، اتجهت نحو التبسيط والتعبيرية، واستخدمت البرونز المصبوب لثباته وقدرته على إظهار اللمسات اليدوية، مما يضفي بعداً إنسانياً دافئاً.
* كيف تتذكر جوائز «نقاد الفن» 2007 و«عشتار للشباب» 2011؟
ـ جائزة «نقاد الفن» كانت تحدياً مبكراً، ومشاركة محفورة في ذاكرتي كانت لجنة التحكيم تبحث عن العمق، لا الجمال السطحي، وقد منحني ذلك دافعاً للاستمرار بثقة. أما «عشتار للشباب» فكانت تجربة تنافسية بين طاقات شابة، وشعرت خلالها بمسؤولية تمثيل جيلي فنياً.
* هل الجوائز ما زالت تحمل ثقلاً للفنان العراقي؟
ـ نعم، لكنها لم تعد تحمل التأثير العملي نفسه كما في السابق. الجوائز اليوم أقرب إلى رمزية فردية منها إلى اعتراف مؤسسي. ومع ذلك، لا أنكر قيمتها كوقفة اعتراف واحتفاء بما ينجزه الفنان .
* ما دلالة موضوعي المرأة والخيول في تجربتك الفنية؟
ـ المرأة كانت نقطة انطلاق، رمزاً للثبات والكرامة. أما الخيول، فمثلّت تحوّلاً نحو الحركة والانفعال. معها شعرت وكأنني أتحرر من السكون إلى طاقة ديناميكية تعبّر عن الانطلاق والتحول.
* كيف توازن بين الواقعية والتجريد؟
ـ أبحث عن مساحة يلتقي فيها الشكل بالحس، حيث يمنحني التجريد التعبيري حرية أكبر في التعبير عن المشاعر والانفعالات، لا سيما في أعمال الخيول التي أصبحت فيها الإيقاع والحركة عنصراً أساسياً.
* هل تميل إلى الرمزية أم الفكرة المباشرة؟
ـ أميل إلى التعبيرية التجريدية، لا لتقديم رسالة جاهزة، بل لفتح باب التأويل أمام المتلقي. أؤمن أن الفن الجيد لا يُفهم فقط، بل يُشعَر ويُتأم.
* ما وضع النحت في العراق اليوم؟
ـ النحت العراقي كان رائداً عربياً، لكنه اليوم يواجه تحديات كبيرة مثل غياب الدعم، وتراجع الذائقة العامة، وإهمال الأعمال الفنية. استمرار هذا الفن يحتاج إلى بنى مؤسسية حقيقية .
* كيف تتعامل مع تأثير الوضع الاقتصادي على الفن؟
ـ أدرك أن الوضع الاقتصادي جعل اقتناء الفن ترفاً، لكني لم أتوقف. أعمل في مجال آخر لتأمين العيش، بينما يظل الفن ضرورة داخلية لا غنى عنها.
* ما الذي يمكن فعله لدعم النحاتين الشباب؟
ـ نحتاج إلى تأسيس ورش ومشاغل مجهزة، ودعم مؤسسات التعليم الفني، وإطلاق جوائز ومسابقات، وإشراك الفنانين في مشاريع الفضاء العام .
* ما الذي يميز مشاركتك في مهرجان بابل الدولي 2002؟
ـ كانت لحظة انفتاح حقيقية على جمهور متنوع. شعرت وقتها أن للفن القدرة على خلق مساحة للحوار والتنفس الثقافي وسط الفوضى .
* أين تجد صدى أكبر لأعمالك، داخل العراق أم خارجه؟
ـ في العراق، هناك قرب عاطفي مع الجمهور، لأنهم يتفاعلون مع المضمون, أما في الخارج، فالتلقي يكون جمالياً وبصرياً أكثر، مما يمنحني منظوراً مختلفاً لأعمالي .
* هل تخطط لمعرض جديد؟
- نعم، الفكرة تراودني باستمرار. لكنني حالياً منشغل بتفاصيل الحياة اليومية، وسأنتظر اللحظة المناسبة لأبدأ مرحلة فنية جديدة .
* مَن مثلك الأعلى في النحت؟
ـ الفنان فلاح السعيدي هو قدوتي، تعلمت منه الصدق في التعبير والانضباط الفني، كما تأثرت بفنانين مثل جواد سليم، محمد غني حكمت، وهنري مور .
* هل تعرض أعمالك على الآخرين؟ وهل تتقبل النقد؟
ـ عادة لا أعرض أعمالي أثناء التنفيذ. أنجزها بصمت، لكني أتقبل النقد الذي يبنى على فهم حقيقي للعمل، حتى إن كان قاسياً.
* ما المشاريع التي تفكر بها مستقبلاً؟
ـ أفكر في تطوير أعمال الخيول لتصبح أكثر تجريداً أو اندماجاً مع رموز بشرية، لدي رغبة في استكشاف مسارات جديدة للتعبير.
* ما الذي يمنحك الأمل؟
ـ الفن نفسه هو الأمل. في ظل كل الظروف الصعبة، يبقى الفن فعلاً عنيداً وضرورياً , هو ما يمنحني الاستمرارية والمعنى .
* هل كان لبيئتك دور في تشكيل ميولك الفنية؟
ـ بيئتي لم تكن حاضنة للفن، ولم أتلق دعماً مباشراً من عائلتي. لكنني كنت أراقب الأشياء بتأمل: الحديد، الخشب، جذوع الأشجار. كل شيء كان خامة للخيال .
* ما طموحك الآن؟
ـ أطمح إلى ترك بصمة واضحة في المشهد الفني العراقي والعربي، بصمة تعبّر عني وعن جيلي. كما أنني أفكر بجدية في إنجاز عمل نحتي كبير في الفضاء العام .
* كيف تقيم نفسك بين النحاتين؟
ـ لا أقارن نفسي بأحد. أقيّم تجربتي بوعي، وأسعى لأن يقال عن أعمالي إنها صادقة وتترك أثرا .ً
* هل ترسم؟ وما الفرق بين الرسم والنحت بالنسبة لك؟
ـ لا أعتبر نفسي رساماً أكاديمياً، لكني أستخدم الرسم كأداة تحضيرية. أحياناً أنحت مباشرة دون رسم، حسب الفكرة.
* كيف ترى الجانب المادي في حياة النحات؟
ـ هو أحد أصعب التحديات. إنتاج منحوتة يتطلب مواد باهظة وجهداً كبيراً، بينما العائد المالي لا يتناسب غالباً. لذا أعمل في مجال آخر لتمويل مشاريعي الفنية .
* كيف ترى وضع المؤسسات الفنية في العراق؟
ـ المشهد الفني حيّ بجهود الفنانين لا بفضل المؤسسات. نحتاج تفعيل دور وزارة الثقافة، وتأسيس صناديق دعم، وتمويل جدي للمعارض والمشاريع الفنية .
رحلة هذا النحات ليست مجرد مسار فني، بل تجربة حياة تختلط فيها الصلابة بالحس، والتجريب بالصدق. صوته يأتي من عمق المادة، ومن قدرة نادرة على رؤية الحياة في الكتلة، والمعنى في الصمت. في زمن سريع، يبقى النحت لديه فعلاً بطيئاً، مقاوماً، وحقيقياً .