رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
محمد عباس حلمي ...من الطيران إلى الطين.. رحلة فنان تسكنه الذاكرة والجمال


المشاهدات 2701
تاريخ الإضافة 2025/05/19 - 10:37 PM
آخر تحديث 2025/06/04 - 4:54 PM

في عالمٍ مشبع بالألوان والخطوط والكتل، تنبض ذاكرة الفنان محمد عباس حلمي بكل ما هو جميل وإنساني. هو ابن ديالى، المولود في ربيع 1965، حمل في روحه شغف الطفولة، وترعرع في بيتٍ عسكري صارم، لكن قلبه كان يهفو إلى اللوحة واللون والخط. تنقّل بين الرسم والنحت، وجمع في تجربته بين الحس الأكاديمي واللمسة الذاتية، ليخلق بصمة خاصة صارت تُقرأ دون الحاجة لتوقيع. في هذا الحوار، نغوص معه في تفاصيل سيرته الفنية والإنسانية، نستعيد محطات الطفولة، ونقف عند تجاربه وأسلوبه، وعلاقته بالمرأة الشرقية، وتأملاته في الفن كأداة تعبير ورسالة.
حدثنا عن بدايتك الأولى، وكيف تشكلت ملامح شغفك بالفن؟
- بداياتي كانت متنوعة وغنية، اشتغلت في عدة أشكال من الفنون التي تتجه إلى عالم الجمال، ومن ضمنها عملي في الأنتيك. كان هذا مدخلي إلى التجربة الفنية، حيث بدأت أعبر عن مشاعري وأفكاري وقيمي بالرسم والنحت. لم تكن مجرد هواية بل كانت مسارًا لتكوين ذاتي، كنت أرسم كثيرًا في الخفاء، دون أن أُظهر أعمالي لأحد، حتى جاءت الفرصة لأكشف عنها.
  كيف أثّرت بيئتك العائلية على مسيرتك الفنية؟
- أنا أنحدر من عائلة بغدادية ذات جذور فنية تهتم بالجمال وتقدّر الفنون. والدي كان رسامًا هاويًا، وأخي الأكبر يتمتع بموهبة كبيرة في الرسم ويُكمل دراسته الآن في معهد للفنون في ألمانيا. عمتي كانت فنانة تطريز ترسم على القماش والزجاج، وهي موهوبة بالفطرة. حتى أولاد عمي منهم فنانون. جذورنا الفنية تعود إلى حضارة أشنونة، في محافظة ديالى، مهد البرتقال والفن معًا. هذه البيئة كانت الحاضنة الأولى لموهبتي. ما هي أولى بصماتك الفنية التي ظهرت للعلن؟
- كانت البداية من خلال مشاركتي في معرض عشتار للفنون تحت إشراف الأستاذ باقر علوان. هناك رسمت أمام مجموعة من الفنانين الكبار، وكانت لحظة كشف عن موهبة خفية. الفضل يعود للفنان والناقد حسن الكيف الذي لاحظ عملي وأعطاني دفعة معنوية هائلة. بفضله، خرجت من عزلتي الفنية، وانفتحت على مجتمع الفنانين الكبار. هذه المرحلة كانت انطلاقتي الحقيقية نحو الساحة الفنية.
وماذا عن دراستك الأكاديمية؟
- ولدت في 23 نيسان عام 1965 بمحافظة ديالى، وكنت قد تخرجت من أكاديمية الطيران المدني وعملت في مطار بغداد. لكن الفن كان يسكنني، كنت أرسم وأجمع الأنتيك، وهذه الهواية نمت بداخلي حبًا للفنون بكل أشكالها، الرسم قبل النحت، ولكن كليهما منحاني أدوات التعبير التي أحتاجها.
متى بدأ شغفك الحقيقي بالفن؟
- منذ الطفولة كان لدي ميل واضح للرسم، لكنه لم يكن موهبة مركزية بقدر ما كان شغفًا متقطعًا، بجانب حبي للرياضة، خصوصًا التنس وكرة القدم. لكن عند بلوغي الثالثة عشرة بدأت أشعر أن الفن يناديني من جديد. كانت الدراسة حينها تأخذ الأولوية، لكنها لم تمنعني من تنمية ذلك الميل الذي كبر معي حتى صار مشروع حياة.   كيف أثّرت الدراسة الأكاديمية في مسيرتك الفنية؟
- عندما التحقت بكلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، أدركت أنني في المكان الصحيح. هناك، كان للأساتذة دورٌ كبير في صقل المواهب، وخصوصًا درس التخطيط بالقلم الرصاص. هذا الدرس علّمني أهمية النسب والتكوين، وكان أساسيًا بالنسبة لي كرسام يهتم بالكتل والبُنى. وجودي في الكلية منحني ثقة إضافية، وجعلني أؤمن أنني أسير في الطريق الصحيح نحو بناء هوية فنية واضحة.
كيف تنظر إلى العلاقة بين الرسم والنحت في تجربتك؟
- الرسم والنحت لا يختلفان كثيرًا، فكلٌّ منهما يبدأ بتخطيط ثم تنفيذ. كنت رسامًا قبل أن أكون نحاتًا، لكن دخول الأكاديمية فتح لي أفقًا جديدًا، فتعلّمت النحت وأحببته، خصوصًا العمل بيدي على كتلة الطين التي تتحول إلى شكل يحمل المعنى. النحت عالم ساحر، وأنا فخور بأنني جمعته مع الرسم في تجربتي الفنية.
هل تأثرت بأساليب فنية معينة أو فنانين معينين؟
- أنا مؤمن بأن الفنان يتأثر بجمال ما يراه، لكنني في الوقت نفسه كنت أبحث عن تجربتي الخاصة. أعجبتني تجربة الفنان أكرم شكري في التنقيط، لكنها لم تكن طريقي. كنت أدرس تجارب الفنانين وأتمعن في تفاصيلها، لكنني دائمًا ما أحرص على أن تكون تجربتي نابعة من ذاتي. كل مرحلة من حياتي كانت تجربة، ومن كل تجربة كنت أخرج بنتيجة جديدة، فالفن بالنسبة لي سلسلة تجريبية دائمة.
كيف تصف بصمتك الفنية وهويتك الشخصية؟
- لكل فنان بصمته التي تميّزه، وهي الهوية الحقيقية له. أنا أؤمن بأن التجربة تُكسب الفنان هذه البصمة. عندما خرجت من الواقعية واتجهت إلى التجريد، سعيت إلى الحفاظ على هذه البصمة الخاصة بي، حتى أصبح البعض يميز لوحاتي دون أن يقرأ اسمي. البصمة ليست تقنية فقط، بل هي انعكاس للروح والرؤية.
ما الدور الذي لعبته الطفولة في تشكيل خيالك الفني؟
- طفولتي كانت مستقرة وجميلة، عشت بين ديالى والوزيرية في بغداد، في بيت جدي الذي كان من كبار الضباط. هذه الذاكرة العائلية خلقت داخلي شعورًا بالفخر والدفء، وانعكست على أعمالي بشكل واضح. الطفولة لم تكن فقط فترة زمنية، بل كانت أساسًا للرؤية الجمالية التي أحملها حتى اليوم.
هل تتناول في لوحاتك موضوعات تاريخية أو معاصرة؟
- بالتأكيد، كثير من أعمالي تعالج مواضيع تاريخية ومعاصرة. رسمت «معركة الطف» وعرضتها في معرض الوزارة، كما عرضت لوحة «الخليقة» في معرض الواسطي، ورسمت كذلك «الانفجار الكبير في لبنان». هذه المواضيع تحمل رسائل وتعبيرات عن واقعنا وتاريخنا، سواء كانت تجريدية أو واقعية أو تعبيرية، لكنها كلها تصب في نهج فني واحد.
  ما أبرز مشاركاتك المحلية والدولية؟
- شاركت في الكثير من المعارض داخل العراق، من بغداد إلى البصرة والموصل والسليمانية. محليًا، تعاونت مع مؤسسة عشتار الدولية، ومؤسسة هواجس للفنون بقيادة السيد رحيم السيد، وكذلك مع مجموعة ريشة ولون العالمية. دوليًا، شاركت في مسابقات في لبنان والأردن وتركيا، وحصلت على الجائزة الثانية من السفارة الهندية في مسابقة المستقبل، وكانت مشاركتي في معرض الورد في تركيا من أبرز محطاتي، حيث حظيت بتقييم مهم كمشارك رئيسي بين منافسين كبار.
كيف كان صدى أعمالك لدى الجمهور العراقي والعربي؟
- كان معرضي الأول في قاعة برونز محطة مفصلية في مسيرتي. اعتبره النقاد اللبنة الأولى لتجربتي الفنية، وأشادوا ببصمتي الخاصة. كان الإقبال على المعرض كبيرًا، والكتابات النقدية التي تناولت أعمالي منحتني ثقة ودفعًا للاستمرار في هذا الطريق.
كيف انعكس الواقع المأساوي في أعمالك الفنية؟
- الفن مرآة للواقع. عشنا ظروفًا صعبة في بغداد، من التوتر الأمني إلى جائحة كورونا التي أصبت بها شخصيًا، وكان لها أثر نفسي كبير عليّ. رسمت «مومياء كورونا» كعمل تعبيري عن هذا الألم الجماعي. هذه الظروف تترك بصمتها على الأعمال الفنية وتُخرج من الفنان صدقه الإنساني.
ما علاقتك بالفن التكعيبي؟
- أحببت الفن التكعيبي منذ بداياتي، وتأثرت برواد هذا الفن مثل بيكاسو، وأيضًا الفنان العراقي حافظ الدروبي. لكنني لم أكن مقلدًا، بل خضت التجربة بطريقتي الخاصة، وخرجت منها بأعمال مثل «راقصة الشيشان» و»مهرجة بغداد» التي لاقت إشادة من النقاد، وأعتبرها تجربة ناجحة تركت أثرًا كبيرًا في مسيرتي.
كيف تعالج موضوع المرأة الشرقية في أعمالك؟
- المرأة الشرقية حاضرة دائمًا في لوحاتي، فهي تمثل الجمال والتراث والهوية. أرسم المرأة كما أراها في حياتي: والدتي، أختي، زوجتي، وكل نساء العراق. جسّدت هذا في لوحاتي، ومنها «امرأة بغدادية». المرأة في نظري كتلة من المشاعر، لا يمكن اختزالها في كلمات. هي رمز الماضي والحاضر، وعندما أرسمها أستحضر صورتها في لحظة، وقد ألونها بالأحمر أو الأصفر أو الأبيض، بحسب حالتي الداخلية.
الخلا صة
بين الطين واللون، بين النحت والرسم، تشكّلت تجربة محمد عباس حلمي كفنان أصيل خرج من عباءة العائلة، وأطلّ على عالم الفن بهدوء الكبار وصدق التعبير.. تجربته غنية، إنسانية، وصادقة، تعكس جمال الداخل، وقلق الخارج، وتحمل روحًا فنية نادرة تُقرأ بالبصر والبصيرة.


تابعنا على
تصميم وتطوير