دعوا أهل غزة وشأنهم الآن…
دعوا لهم حق الفرح بتوقف الحرب، وحق البكاء على أحبابهم الذين فقدوهم، وعلى أطلال منازلهم التي كانت تضم أحلامهم. دعوا لدموعهم المؤجلة أن تنهمر، لتغسل وجوههم من غبار المعارك وحرقة الفقد، فقد حان وقتها أخيرًا.
دعوا لهم فرصة أن يناموا بعمق لأول مرة منذ زمن، دون أن توقظهم أصوات القصف أو أنين الجراح. دعوا سكينتهم المكتسبة بثمنٍ باهظ تسكن قلوبهم، ولو للحظات قصيرة قبل أن تبدأ دورة الحياة من جديد.
لا تثقلوا كاهلهم بنقاشات النصر والهزيمة، ولا تصدعوا رؤوسهم بجدالٍ عقيم.. هم أنهكهم التعب، وآن لهم أن يستريحوا قليلاً.. أن يتذوقوا طعم الهدوء الذي حُرموا منه طويلاً.
أما نحن، فنحتاج إلى وقفة جادة مع أنفسنا. ما دورنا الآن؟ كيف يمكننا أن نكون عونًا حقيقيًا لهم، بعيدًا عن الشعارات والمواقف العابرة؟ الواجب علينا أن نحول عجز الكلمات إلى قوة الأفعال، وأن نمد أيدينا إليهم بمشاريع البناء، وبخطط لإعادة إعمار الأرواح قبل الجدران، وإحياء الأمل قبل الحجر.
غزة تحتاج منا أفعالًا، لا أقوالًا. فلنكن على قدر هذه المسؤولية، ولنجعل من هذا الوقت بداية جديدة، ننتصر فيها لأنفسنا قبل أن ننتصر لهم.
والحديث عن انتصار غزة أو هزيمتها لا يمكن أن يكون حديثاً بالأرقام وحدها، بل هو أكبر وأعمق من ذلك، إذ يتعلق بالصمود، بالإرادة، وبالإيمان بعدالة القضية. فالمعارك المصيرية، كما علّمنا التاريخ، لا تُحسم بضربة واحدة ولا بجولة واحدة. إنها معارك نفس طويلة، تتداخل فيها السياسة، والعقيدة، والإرادة الشعبية.
نعم، غزة تحملت خسائر كبيرة، فقدت أرواحاً غالية ودُمرت بنيتها التحتية، لكنها في المقابل كشفت عورة الاحتلال أمام العالم، وأحيت في الأمة روح المقاومة بعد أن ظن كثيرون أنها خمدت.
أجيال غزة التي نشأت وسط الحصار والدمار، لم تكسرها المآسي، بل صارت تحمل ثأراً شخصياً ضد العدو.. هذه الأجيال هي بذور المستقبل التي ستنمو يوماً لتغير المعادلة. والتاريخ مليء بالأمثلة؛ الجزائر استمرت أكثر من مئة عام تحت الاحتلال، لكنها في النهاية انتصرت لأن شعبها لم يتخلَّ عن حقه. فيتنام أيضاً هزمت قوة عالمية عظمى لأنها آمنت بمشروعها الوطني.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا صغيرة، بل هي رمز لإرادة أمة بأكملها.. الحديث عن خسارتها هو تجاهلٌ للإيمان الذي تزرعه في القلوب، وللصورة التي تتركها في ذاكرة الأجيال.
الخسارة الحقيقية ليست في هدم البيوت، بل في هدم الإرادة. وغزة، رغم كل شيء، لم تفقد إرادتها، ولم تتخلَّ عن مبادئها. لذا، فإن الحديث عن الهزيمة أو النصر في هذه اللحظة حديث ناقص، لأن المعركة مستمرة، ومن يحمل الحق والإيمان يملك الوقت لصالحه.
كما قال الشاعر:
إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجساد
غزة، كما كانت دائماً، هي بداية الطريق، وهي وعدٌ بأن الأمة التي تنجب مثل هذا الصمود لن تموت، وأن النصر، مهما تأخر، هو وعد الله لأهل الحق.