الفنان الرائد الكبير وجيه عبد الغني شكل في بداية ظهوره مع فرقة 14 تموز شكلاً اخر وأسس مع شركائه من الفنانين الرواد نمطاً جديداً من تقديم المسرح الكوميدي بالعراق والذي استطاع كسب جمهور واسع رغم أن الفنان الكبير يوسف العاني كان أسس قواعد للمسرح الشعبي برفقة فرقة المسرح الفني الحديث ونجومها الكبار
لكن حب وجيه عبد الغني للتنافس في كسب شريحة الجمهور دفعه للمساهمة في تشكيل فرقة 14 تموز للتمثيل والتي اشتهرت فيما بعد بتقديم معظم الأعمال المسرحية الكوميدية، هذه الفرقة والتي شملها بعنايته ورعايته ودعم اعضائها وتشجيعهم محركا الأجواء فيما بينهم من خلال خلق أجواء الأخوة والزمالة والتواضع في تعامله مع أبنائه الطلبة وزملائه الفنانين والذين كان يحلو لهم رفقته ومزاملته في الفرقة التي كان يرأسها الفنان الرائد المرحوم اسعد عبد الرزاق، ووجيه عبد الغني سكرتيراً للفرقة في متابعة معلقاتها الفنية وإدارة شؤون أعمالها وأنشطتها الفنية.
إنّ العديد من مؤرخي الثقافة العراقية المسرحية، بالذات المعاصرة، يتعاملون مع ذوقيات المتلقي خلال نوعية المسرحيات التي يحبذها أي أخضعتْ لقانون العرض والطلب مما شجع القطاع الخاص للدخول في مضمار هذا العمل الفني بالمال والترجمة والتأليف فكان حقاً العصر الذهبي بنوعيه الجاد والتجاري ، فكانت سنة 1952 ولادة « فرقة المسرح الفني الحديث» بجهود عباقرة الفن المسرحي العراقي الفنان الكبير يوسف العاني والراحل أبراهيم جلال برائعتهم، الشريعة والخرابة ، آني أمك يا شاكر ، خيط البريسم، راس الشليلة ، وثُمّ رائعة غائب طعمه فرمان { النخله والجيران } في 1968 التي وازت وطاولت قمة المسرحيات العالمية ، وسنة 1954 تأسست « فرقة المسرح الحر» بجهود المخرج قاسم محمد وجاسم العبودي وكارلو هارتيون وشكري العقيدي فقدمت مسرحية ثمن الحرية ومسرحية موتى بلا قبور لسارتر ومسرحية البخيل لمولير ، وسنة 1959 ظهور فرقة 14 تموز بقيادة الفنان أسعد عبد الرزاق وقدمت مسرحية ( الدبخانة ) على المسرح القومي في الكرادة وأبطالها وجيه عبد الغني وقاسم الملاك في 1960 ، أما في سنة 1963 ذات الشباط الأسود ألغيت المسارح والفرق المسرحية بأعتبارها في نظر الأنقلابيين قاسمية وشيوعية !!! ، ونصل إلى سنة 1983 وفرقة مسرح بغداد بقيادة خليل الرفاعي والمخرج مقداد سالم وسامي قفطان وراسم الجميلي في مسرحية { الخيط والعصفور } على مسرح المنصور.
فيما كان المسرح التجاري الذي يتمحور حول السردية الفكاهية والهزلية ورواد هذا النوع المسرحي هم نفسهم جماعة أفلام الأكشن والمغامرات والرعب والخيالية والأغراء ، مع أنّ جمهور هذا النمط أوسع والطلب عليه أكثر وتفسيره السوسيولوجي عند العلامة الدكتور علي الوردي : الحزن والأكتئاب هو السائد على المجتمع العراقي لما مرّ عليه من غزوات ونكبات وفيضانات وأوبئة ودكتاتوريات الحديد والنار بحيث جعلتْ الابتسامة عُملةً صعبةً لذا يشعر باللذة والمتعة في مشاهدة هذا النمط من المسرح للتصريف عن اسقاطاته النفسية.
لقد اشتهر النجم وجيه في ادواره الرومانسية حيث لعب ادوار الفتى المحبوب من قبل الفتيات وادوار المشاكس لهن، وهو في حقيقته انسان خجول مؤدب يحمل من قيم الانسانية والاخلاق الكريمة ما يجعلك تحترمه. لقد بدأت موهبته في التمثيل منذ ان كان في المعهد ومتوجا هذه الموهبة بالأدوار الرئيسة في مسرحية قيس وليلى، وكذلك شهريار في الف ليلة وليلة، حيث امتدت انشطته الفنية اشرافا ورعاية لطلبته الذين تالقوا في تقديم اعمال كوميدية منها وارتجالية، والبعض منها إعداد وتحت اشرافه المباشر، كانت طموحاته لا تتوقف عند مرحلة التدريس، وانما كان ينظر للبعيد في تشكيل فرقة فنية مسرحية تساهم في تحريك وتطوير الفن المسرحي في العراق.
استطاع هذا الفنان الكبير ان يستحوذ على جمهور واسع النطاق من خلال تلقائيته في الاداء، انه مدرسة صعبة التقليد نالت اعجاب جمهوره والذي كان يتابع جميع اعماله المسرحية بشغف قل نظيره، ولهذا برز نجمه وسطع اسمه في الستينيات في جميع اعماله والتي تميزت بالأبداع والمهارة الحرفية في التمثيل، مسرحيات واقعية استطيع ان اوعز نجاح معظمها الى تفاعله ومن خلال شخصيته الرئيسة والتي يساعد من خلالها على اضفاء روح النكتة والتي يفاجئ تلامذته وزملائه على خشبة المسرح من ابتكار حوار ارتجالي من صلب واقع مسار الحدث العام للعرض المسرحي، ليزيد من كوميدية الطرح مما يجعل الجمهور يصفق مرارا لإعجابه بما يقدمه هذا النجم اللامع.
لقد وضعت فرقة 14 تموز قدما في اختيار النصوص وحتى شكل العرض وضمن القواعد التي تضبط الأداء والالتزام بالأخلاق الاجتماعية وعدم التجاوز على شرائح المجتمع او السخرية من بعض الشواهد المخلة فحقق الرائد الكبير وجيه عبد الغني مع المؤسس الفعلي للفرقة الفنان اسعد عبد الرزاق اضافة الى عضوية كل من الفنانين قاسم الملاك وقاسم صبحي والدكتور شلال عزيز وحاتم سلمان وفاضل جاسم وسمير القاضي وعلي هادي السعيد وابتداء السعيد وعمانوئيل رسام وسليم البصري وبهنام ميخائيل وسليمة خضير وضياء البياتي وقائد النعماني وحمودي الحارثي وراسم الجميلي وخليل النعيمي ، اضافة الى اسماء عديدة ، والقاسم المشترك الاعظم هو الكاتب الساخر والناقد اللاذع علي حسن البياتي، وجميع اعماله هي من اخراج الاستاذ اسعد عبد الرزاق. امتاز الفنان والنجم اللامع وجيه عبد الغني، بأسلوب شيق في تمثيل وتجسيد معظم ادواره الفنية في السينما والتلفزيون والمسرح، حيث انه امتاز بالثقافة العلمية في كيفية تعامله مع جميع ادواره بقناعة تجعله يبدع في الاداء المبني على الصدق والايمان بما يقدمه، وعلى التلقائية في التمثيل نابعا من صدق العواطف والمشاعر، والاحساس بالشخصية وواقعيتها التي يحيك معالمها من صلب واقع الحياة، والذي لم يعرف وجيه عبد الغني بواقعيته يتعرف عليه من ادواره، وهذا هو ديدنه، انه حينما يختار اي شخصية ليمثلها ويسخرها على المسرح، لا يقدم على اختيارها مالم تكن تتفق مع ما يحب تجسيده من واقع الحياة على خشبة المسرح، ولهذا يعود اسباب نجاح جميع اعماله الى تجربته في الحياة وقوة تركيزه على ما يحيطه من الواقع الذي ينتقي من خلاله شخصياته ويمسرحها بشيء من ابداع مواهبه المختزنة في ذاكرته، ومن خلفيته الثقافية التي تساعده على خلق الشخصية ودراستها والتعامل معها تعاملا اقرب ما تكون الى الواقع، بتصرفاتها وحركاتها وعاداتها وبمزاجها واسلوب حديثها الذي يتفق مع هويتها الاجتماعية والثقافية، هذا هو احد اسرار نجاح وجيه عبد الغني في جميع اعماله المسرحية والتي تقدمها فرقة 14 تموز للتمثيل.
ان الفنان الكبير وجيه عبد الغني معين من المواهب الفنية وعطاء متميز لا ينضب، فهو يجمع ما بين الفنون التشكيلية والموسيقية والتمثيل على خشبة المسرح ولهذا نراه يساهم في معظم التصاميم لديكور معظم مسرحياته، اضافة الى ان لديه من واقعية الاختيار في اضافة اللمسات الواقعية لسينوغرافيا اي تصميم واقعي ليضفي عليه أجواء واقعية تجسد معالم موقع الحدث بشيء يوحي للمتلقي انه امام موقع واقعي يساعد على تجسيد الاحداث ويعطيها مسحة من الواقع الذي يتفق مع هوية العرض المسرحي، وله مواهب عديدة منها : الرسم ، والعزف على الكمان ، ويكتب الشعر .
ولد الفنان وجيه عبدالغني في آب عام 1933م ، والده عبدالغني مصطفى اول كاتب عدل في العراق ، انهى جزء من دراسته الابتدائية في اللاتين بمنطقة عكد النصارى ، اكمل المرحلة المتوسطة والثانوية في الاعدادية الشرقية للبنين ، دخل معهد الفنون الجميلة، وعين مدرسا في المعهد نفسه ، ثم عين مدرسا في معهد المعلمين.
من ادواره الاولى في المعهد كان دور (قيس) في مسرحية (قيس وليلى) ثم مسرحية (ألف ليلة وليلة) ، كما ساهم بتأسيس فرقة 14 تموز عام 1958م ، بدأت علاقته بالتلفزيون حيث قام بأدوار « شهريار» في (ألف ليلة وليلة) ، و(رمضانيات) ، و(مع الخالدين) وغيرها .
وعمل مديرا للفرقة القومية للتمثيل عام 1967م ،ثم مديرا للإنتاج في الاذاعة والتلفزيون ، ومديرا للإنتاج في شركة بابل للإنتاج السينمائي والتلفزيوني مثل العديد من الاعمال المسرحية نذكر منها : (الدبخانة) ، و(جزة وخروف) ، و(اللي يعوفه الحرامي) ، و(يأخذه فتاح الفال) ، و(خان بطران) وغيرها، كما قدم العديد من الادوار التلفزيونية نذكر منها : مسلسل (نادية) ، وسهرة (خيط البريسم) ، ومسلسل(غاوي مشاكل) وغيرها .. كما عمل مقدما لبرنامج (زوايا الكاميرا) الذي نال نجاحا واقبالا كبيرا من مشاهدي التلفزيون، كما قدم العديد من الادوار السينمائية منها افلام : (الجابي) و(جسر الاحرار) و(100%) .
كان الرائد الراحل وجيه عبدالغني مشرفا على فرقة معهد المعلمين للتمثيل، وراعيا للمواهب الفنية والتي كانت تتوق لظهور نجوميتهم في ظرف لم يخدم مسيرتهم، لقد كانت مسرحية الخبز المسموم هي باكورة الاعمال المسرحية والتي اخرجها في معهد المعلمين، حيث عرضت هذه المسرحية وبنجاح ساحق ولمدة ثلاثة ايام متتالية على مسرح قاعة المعهد، فكان لا يتوانى عن جذب جميع المواهب ، حيث كانت فرقة مسرح 14 تموز للتمثيل ، التي كانت وضمن قواعد العمل على الذي يتقدم للانضمام للفرقة يتم قبوله للتجربة لمدة من ستة اشهر الى سنة، ادواره تكون بالدرجة الاولى كومبارس، عندها يكون عمله مجانا، واذا ما اثبت مقدرة في عمله بعد هذه الشهور نقبله ممثلا من الدرجة الثالثة، وهذا طبعا يعتمد على نشاط الممثل واهتماماته ومتابعاته، حيث يتقاضى اجرا حسب درجته الفنية ،هذا هو الفنان وجيه عبد الغني الذي كان يملك من الانسانية والطيبة، اضافة الى محبته لمساعدة جميع معارفه، وحتى انه لا يبخل في مساعدة اي انسان لا يعرفه يحتاج المساعدة.
يستذكر الفنان الكبير وجيه عبد الغني بعض من مواقفه حينما كان يعمل بالمسرح او التلفزيون فيقول: ربما لأني كنت بينهم دائما، فيبدو اني كنت في مرمى بصرهم في حالة حاجتهم للطفلة في اي دراما او مسرحية، وهكذا كنت. فقد اشتركت في أول تمثيلية تلفزيونية ولم يكن عمري قد تجاوز الأربع سنوات، مع الأساتذة العمالقة سليم البصري (حجي راضي)، حمودي الحارثي، عمانوئيل رسام وروميو يوسف وكانت كل التمثيليات، وعموم البث آنذاك مباشرا ،ويبدو بعد نجاحي على ما اعتقد، فقد اختاروني معهم في مسلسل ألف ليلة وليلة الذي كان يعرض اسبوعيا في ليلة كل يوم جمعة، حينها كانت فرقة 14 تموز التي يعمل بها والدي، هي الفرقة المفضلة لدى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ولعلي هنا وأنا أستعرض تلك الاحداث والأيام اتذكر وجوها جميلة ورائعة طبعت احلى الذكريات في مخيلتي، مثل مائدة نزهت، ناظم الغزالي، سليمة باشا مراد وآخرون غيرهم، يطبعون قبلاتهم على خدودي الطرية او جبهتي الفتية، انها ايام وأسماء وذكريات لا تنسى .
وأذكر في تلك الفترة أني اشتركت في الكثير من المسلسلات ومنها: رمضانيات ومع الخالدين وتقاسمت دور البطولة في عيش وشوف، لكن من الطريف أن اذكر حادثة مرّت عليّ حينما كنّا نمثل حلقات تمثيلية يتيمة وكان على أن اصفع ممثل زميل معي ـ ضربته بعجل ـ وقد كان من القوة أن أدى ذلك الى ارتباكه ونسيانه لدوره والحوار المفروض أن يقدمه!
وكان الفنان الراحل يوسف العاني صديقا مقربا للراحل وجيه عبد الغني وكتب عنه حين وفاته (رحل المتميز ، المرح ، الملتزم ، الواعي والمثقف والفنان، المخرج والممثل والتشكيلي والموسيقي .اللطيف الى درجة ان العين لا تترك متابعته وهو يتحرك بثقة على المسرح او امام الكاميرا وابتسامته مميزة ان كان الموقف حزيناً او سعيداً فهو يستقبل جميع المواقف بابتسامة وتعابير مختلفة يصحبها تعاملا ذكيا من العينين والفم والانف والساقين حين تتقدم الواحدة تلو الاخرى واليدين حين تحمل احدهما سيكارة والثانية قد ترتمي داخل الجيب الذي استوطن تلك اليد بكل محبة واحترام لانها تختبأ لدلالة درامية وتعبير ينتمي الى الذهن والجمال لم يكن يفعلها هروبا ابدا ولا استراحة ولا موت بل هي حياة فعل مهم، وداعا ايها الممتلئ نياشين من اخمص قدمه حتى اعلى راسه وجيه الذي لم يشب على المسرح ولا امام الكاميره،الممثل الذي يخلق لنفسه لقطة كبيرة لاتحتاج لمكياج وداعا يامصدرا للطاقة الجمالية التي يفوح عطرها روعة وانت تراقب هذا الوجيه).
وبالتأكيد فان الفنانين الكوميديين والاكاديميين منهم والذين يملكون ثقافة عن منهاج المسرح الكوميدي وانواعه، يحرصون على انتهاج الثقافة الاكاديمية في تناول مواضيعهم الساخرة والناقدة للاوضاع المتردية والسائدة في المجتمع ، ويهاجمون باعمالهم ويهجون المواضيع المحرمة والمحذورة والتي هي بمثابة الخط الاحمر في تناولها فنيا والسخرية منها ومعالجتها بشكل فكاهي وساخر مع الاحتفاظ بجدية الموضوع،حيث ان الكوميديا السوداء تدور حول مواضيع وافكار سوداوية في تناولها ومن خلال النقد والسخرية من الارهاب ومن الطبقات الارستقراطية , ومكافحة المخدرات في شخوص يؤلم واقعهم المحزن , وفي الوقت نفسه يدفعك الى الضحك على حال واقعهم وكما هو الحال في اعمال يوسف العاني ووجيه عبد الغني وقاسم الملاك وغيرهم من فرسان المسرح الكوميدي العراقي وخاصة في فترة الستينيات وما قبلها .
تزوج الفنان وجيه عبد الغني وعمره كان 17 عاما ، وله ليلى (مقدمة برامج اطفال) وقيس ..
توفي ببغداد في يوم 26/1/1998م ، بعد مسيرة حافلة بالأبداع والتألق.