في إدلب، حيث تمتد حقول الزيتون كأحلام تنتظر القطاف، تتكرر مشاهد تبدو عادية لكنها تختزل مأساة. على كل معصرة زيتون، يقف محصل الضرائب، ليس لجمع المال، بل لجمع نسبة من الزيت نفسه. 5% تُقتطع بلا تفاوض، تُنتزع من أيدي المزارعين الذين يعرفون أن الزيت هنا ليس ذهبًا سائلًا، بل عبءٌ ثقيل يُموّل حربًا لا تنتهي.. في إدلب، الزيت لم يعد رمزًا للسلام. أصبح جزءًا من معادلة قاسية تُديرها هيئة تحرير الشام، الحركة المتمردة التي تحولت من جماعة جهادية إلى حكومة محلية تسعى لصناعة نموذجها الخاص في الحكم.
ضرائب الزيتون: قصة إدلب المختزلة
في إدلب، لا شيء يحدث بالصدفة. الضرائب هنا ليست مجرد إجراء اقتصادي، بل انعكاس لطبيعة السلطة. هيئة تحرير الشام، التي سيطرت على المنطقة منذ سنوات، وجدت في ضرائب الزيتون والمعابر الحدودية شريان حياة يُغذي خزائنها. لكن، مثلما يُقال، لكل شيء ثمن. الضرائب المفروضة أثارت احتجاجات بين السكان، الذين يرون في ذلك استنزافًا لما تبقى لديهم من موارد. إدلب، التي كانت يومًا أرضًا للزراعة والأمل، أصبحت اليوم ساحة للمقايضات: ضرائب مقابل استقرار، وخدمات أساسية مقابل صمت على قبضة الحكم الحديدية.
هيئة تحرير الشام: من الجهاد إلى الحوكمة
هيئة تحرير الشام ليست تلك الجماعة التي كانت يومًا ترفع رايات القاعدة. منذ عام 2017، بدأت رحلتها في التحول من ميليشيا مسلحة إلى كيان يُدير منطقة بأكملها.
أنشأت حكومة مدنية تضم 11 وزارة تُدير التعليم، الزراعة، والصحة. لكن هذه الحكومة ليست سوى واجهة. القرارات الكبرى تُصنع في مكان آخر، حيث يجتمع القادة العسكريون الذين يمسكون بمفاتيح السلطة الحقيقية.. هذا التوازن بين الظاهر والباطن مكّن الهيئة من فرض نوع من الاستقرار في إدلب. لكنها، في الوقت ذاته، أظهرت تناقضاتها. كيف يمكن لكيان يحمل جذورًا جهادية أن يتحول إلى حكومة تُقدم نفسها كبديل عملي للنظام السوري؟
اقتصاد الحرب: زيت الزيتون والنجاة
في أزمنة الحروب، الاقتصاد ليس رفاهية، بل وسيلة للنجاة. هيئة تحرير الشام، التي كانت تعتمد سابقًا على تمويل المانحين الأجانب، أدركت أن الاعتماد على الداخل هو الطريق الوحيد للاستمرار.
فرضت ضرائب على كل شيء تقريبًا: من المحاصيل الزراعية إلى حركة التجارة، ومن الوقود إلى البناء. لكنها اعتمدت بشكل خاص على معبر باب الهوى الحدودي، الشريان الذي يربط إدلب بتركيا. يُقدَّر أن الهيئة تجمع حوالي 15 مليون دولار شهريًا، لكنها تُدرك أن هذه الإيرادات قد لا تكفي لدعم طموحاتها على المدى الطويل.
هنا، يبدو المشهد وكأن إدلب تعيش على حافة سكين. اقتصادها الهش يعتمد على موارد محدودة، بينما سكانها يواجهون يوميًا سؤالًا وجوديًا: كيف يمكن البقاء في ظل سلطة تجمع الضرائب أكثر مما تُقدم الحلول؟
جيش منظم أم ظل لميليشيا؟
تحولت هيئة تحرير الشام عسكريًا من مجموعة ميليشيات متفرقة إلى قوة منظمة. في عام 2021، أسست “الكلية العسكرية”، التي أصبحت مركزًا لتدريب مقاتليها وفق العقيدة العسكرية الحديثة.
هؤلاء المقاتلون لم يعودوا يعتمدون فقط على البنادق المغتنمة من المعارك، بل يتعلمون التخطيط العسكري والقتال المنظم. تقول التقارير إن الهيئة اعتمدت على ضباط منشقين عن الجيش السوري لتدريب قواتها، وحتى على التكنولوجيا الغربية المتاحة عبر الإنترنت. لكن التنظيم العسكري وحده لا يكفي. في قلب هذه القوة، يبقى السؤال: هل يمكن لجيش نشأ في الفوضى أن يُصبح نواة دولة؟
الوجه الآخر للسلطة: بين البراغماتية والإيديولوجيا
ما يميز هيئة تحرير الشام عن غيرها من الجماعات المسلحة هو قدرتها على التكيف. رغم جذورها الجهادية، تبنت الهيئة نهجًا براغماتيًا في إدارتها لإدلب.على عكس تنظيم الدولة، لم تلجأ الهيئة إلى فرض قيود اجتماعية صارمة. التدخين مسموح، الاختلاط في الأماكن العامة لا يُمنع بشكل كلي، وحتى الكحول لا يتم ملاحقة شاربيه بشدة. هذا التوازن بين البراغماتية والإيديولوجيا جعلها أكثر قبولًا لدى السكان، لكنه في الوقت ذاته يطرح تساؤلات حول مدى قدرتها على الحفاظ على هذا النهج إذا توسعت سلطتها.
خاتمة: حلم الدولة أم عبء الضرائب؟
إدلب اليوم هي صورة مصغرة لما يمكن أن تكون عليه هيئة تحرير الشام إذا حكمت سوريا. لكنها أيضًا اختبارٌ صعب: هل يمكن لسلطة تجمع الضرائب من كل شيء أن تُقنع شعبها بأنها تقدم أكثر مما تأخذ؟
وكما يُقال “الحكم ليس بالسيف أو الضرائب وحدها، بل بالأمل”. إدلب، بين حقول الزيتون ومعابر الحدود، تعيش بين مطرقة الطموحات وسندان الموارد المحدودة.
لكن المستقبل يحمل سؤالًا أكبر: هل يمكن لزيت الزيتون أن يُضيء الطريق نحو دولة، أم أنه مجرد وقود يُستهلك في لعبة لا منتصر فيها؟