بلغ السباق المحموم نحو البيت الأبيض الأميركي ذروته بين المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس ومرشحّ الحزب الجمهوري دونالد ترامب في ضوء إستطلاعات الرأي التي تشير إلى احتداد المنافسة وصعوبة التكهّن باسم الفائز بمنصب الرئيس.
ومع إقتراب موعد 5 تشرين الثاني القادم إشتدّت خطابات الحملة الانتخابية الرئاسية من الطرفين وبلغت درجة غير مسبوقة من حدّة الخطاب وهو ما يؤشّر على أنّ نتائج هذه الانتخابات قد لا يقبل بها أيّ طرف يفشل في حيازة الأغلبية البسيطة من الناخبين الكبار أو الرئاسيين أي 270 من أصل 538 صوتا انتخابيا .
ولا يخفى أنّ القضايا الطاغية في هذا الإستحقاق الإنتخابي الرئاسي الأميركي هي ذات طابع داخلي إقتصادي ومعيشي رغم أنّه يجري في سياق دولي متفجّر عناوينه الأساسية العدوان الإسرائيلي في الضفة الغربية والقطاع ولبنان والحرب الروسية الأوكرانية .
ومعلوم أيضا أنّ القضايا الدولية ترتدّ إلى مراتب ثانوية لدى الناخب الأمريكي ، لا بسبب إنعدام أهمّيتها ولكن بسبب أنّ هذه القضايا الدولية هي في العادة والغالب محلّ توافق بين الجمهوريين والديمقراطيين .
ومع ذلك شذّت هذه الإنتخابات عن هذه القاعدة وحملت معها جنين خلافات حول بعض هذه القضايا وخصوصا الحرب الروسية الأوكرانية ونزاع الشرق الأوسط .
ويُرجع الملاحظون هذا التطوّر في أمريكا إلى شخصية المرشّح الجمهوري دونالد ترامب الذي تستهويه جاذبية القوّة والحُكْمِ القويّ والمتسلّط ، وهو لذلك لا يُخفي بعض الميول للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكذلك لرئيس حكومة الإحتلال بنيامين نتانياهو ، ويعتبر أنّ التفاهمات تُبنى مع حكّام أقوياء ، وأنّ المصلحة العليا الأمريكية في ايجاد حلول سريعة لهذه النزعات وغير مكلفة للأمريكيين .
ويجد الغرب الليبرالي الأوروبي تحديدا نفسه في وضع لا يُحسد عليه لجهة تضارب الموقف من دونالد ترامب بحسب الملفّ والقضايا الدولية المعروضة .
ويساند هذا الغرب الليبرالي بكلّ قوّة سياسة المرشّح الجمهوري في الشرق الأوسط والتي تقوم على ضرورة قبول الفلسطينيين وكلّ الأطراف في المنطقة بالأمر الواقع الذي فرضه الإحتلال الإسرائيلي بدل الإحتكام صراحة إلى قوانين الشرعية الدولية وهو لذلك ينظر بعين الرضى لمساعي ترامب فرض عملية التطبيع مع كيان الإحتلال على دول المنطقة وكذلك إعتباره بأنّ أمن إسرائيل هو مقدّمة وشرط أيّ سلام مع الفلسطينيين وهو شرط يمرّ حتما عبر القضاء المبرم والمسبق على كلّ أشكال المقاومة ، وفي المقابل يرفض هذا الغرب الليبرالي رؤية دونالد ترامب للنزاع الروسي الأوكراني الذي تقوم هي الأخرى على القبول الجزئي للأمر الواقع الميداني .
وإنّ المتابع للمشهدين الإعلامي والسياسي الأوروبي يقف بوضوح على هذا التمزّق الذي يطبع سلوك السياسيين والإعلاميين والذي يترجم بامتياز معنى وكنه سياسة إختلاف المكاييل ، إذ لا يرى الفاعلون في السياسة والإعلام الغربيين أيّ حرج في التعبير عن مواقف مختلفة ومتناقضة في الغالب من قضايا متشابهة وأحيانا متماثلة ، وهم لذلك يغضون الطرف عن إنتهاك القانون الدولي بكلّ فروعه إذا كان الأمر يتعلّق بجرائم دولة الإحتلال ويحرّكون الآليات العقابية والقضائية إذا كان الطرف المستهدف هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين .
وقد لمسنا على مدى هذه الحملة الإنتخابية الأمريكية حيرة وقلق مكونات المشهدين الإعلامي والسياسي الأوروبي من رؤية المرشح الجمهوري دونالد ترامب التي تقوم على القبول بمنطق القوّة مهما إختلفت القضايا .
إنّ السياسي والإعلامي في أوروبا الغربية يعيش بلا شكّ حالة إنفصام وشيزوفرينيا، لافتة في التعاطي مع مواقف المرشح الجمهوري للاستحقاق الإنتخابي الرئاسي الأمريكي ، وهو مرض لا يُشفى منه المرء إلّا بالعودة إلى المنظومة القيمية التي تقوم على المبادئ ورفض التعدّي على حقوق الآخرين .