الصورة التي شاهدناها وشاهدها العالم على شاشة الجزيرة بعد منتصف الليل وقبيل فجر الأحد، يجب أن تبقى محفورة في أذهاننا وأن نوثق لحظاتها كلها لما تحمله من دلالات وما يمكن استنتاجه منها من رسائل.
جنود مدججون بالسلاح يقتحمون مكتبًا معروفًا يحمل واحدة من أهم العلامات الإعلامية في العالم، ويحيطون بصحفي يمسك بالميكروفون ويبث على الهواء ما يجري، وهو الصحفي المخضرم وليد العمري الذي طحنته الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي، واحترف التعامل مع مختلف الظروف؛ وقد واجههم برباطة جأش وهم يبلغونه بقرار إغلاق مكتب الجزيرة وإخلائه الفوري، ومصادرة أجهزة ومعدات كان يستخدمها فريق القناة الإخبارية؛ لنقل تطورات المعركة بين الاحتلال وحزب الله التي كانت قد شهدت للتو إطلاق عشرات الصواريخ نحو مناطق واسعة في شمال فلسطين المحتلة. والغريب في الأمر أن هذا المكتب يبعد عن مسرح هذه العمليات العسكرية أكثر من مائة وثلاثين كيلومترًا فكيف انشغل به كل هؤلاء الجنود والضباط ومن خلفهم آخرون ملؤوا المبنى وموكبًا من العربات المدرعة؟
وكيف اخترقت كل هذه القوات مدينة رام الله التي تصنفها اتفاقيات أوسلو بأنها منطقة « أ «؛ أي أنها تحت السيادة الإدارية والأمنية الفلسطينية؟ وتتيح الاتفاقيات فقط ما يسمى بالمطاردة الساخنة، وخلالها يمكن لقوات الاحتلال اقتحامها بعد التنسيق مع أجهزة الأمن الفلسطينية، لكن الاحتلال لا يتوقف عن اقتحام أي مكان في الضفة الغربية ضاربًا عرض الحائط بكل الاتفاقيات.
أما العلاقة المتوترة بين الاحتلال والجزيرة فلم تبدأ هنا فقد اتخذت حكومة نتنياهو قرارات بمنع الجزيرة من العمل في إسرائيل، وقرّرت إغلاق مكاتبها المعتمدة لديها، ومنع طواقمها ومراسليها من تغطية ما يجري هناك منذ عدّة أشهر، ومدّدت قرار الإغلاق عدّة مرات.
أما اقتحام مكتب رام الله فقطعًا لم يكن لأنّ موظفي الجزيرة يشكلون تهديدًا لقائد المنطقة العسكري المدجج بالجنود والمدرعات والكتائب، كما لا يشكل مكتب الجزيرة تهديدًا لمن هو أعلى منه من القادة العسكريين وصولًا لقائد الأركان أو وزير الدفاع لينشغلوا في هذا الوقت المتأخر من الليل بإغلاق مكتب صغير في رام الله، وينفذوا ذلك بعملية اجتياح عسكرية ليس لها مبرر منطقي وهدفها توصيل ورقة مكتوب عليها قرار الإغلاق أو إلصاقها في مكان بارز على المكتب حسب نص القرار؛ الذي لا يعطي الجزيرة الحق للاعتراض إلا لدى صاحب القرار نفسه وخلال أسبوع.
فمن إذن الذي يزعجه وجود مراسلين محترفين تمكنوا على مدار سنوات طويلة من تكوين شبكة واسعة من العلاقات للحصول على الأخبار والمعلومات والفيديوهات واستضافة المسؤولين والمحللين والخبراء وبثها للعالم الذي يحتاجها كما يحتاج الماء والهواء في مرحلة تاريخيّة حساسة تكاد تتحول إلى حرب إقليمية في أي لحظة؟
من المستحيل أن يكون للقرار علاقة بنوع التغطية التي تقوم بها قناة الجزيرة، فلا شيء قد تغير على شكل أو مضمون التغطية منذ بداية «طوفان الأقصى» بل استمرّ عمل القناة وفريقها بكل جد واجتهاد تركيزًا على ما يجري من أحداث وتطورات وإلقاء مزيد من الضوء من خلال تحليلها ووضعها في السياق الإخباري السليم، وهي خدمة تقدمها الجزيرة لجمهورها العربي والعالمي منذ تأسيسها قبل نحو ثلاثة عقود، وقد احتلت موقعًا مهمًا بين القنوات الإخبارية على مستوى العالم؛ بسبب تميزها واحترافها.
إن نص القرار وطريقة تنفيذه يكشفان عن تجاهل كامل للواقع السياسي المحيط بالمكتب، وتجاهل وجود السلطة الفلسطينية، وأنها الجهة التي منحت مكتب الجزيرة ترخيصه وحق العمل في رام الله وفق قوانين السلطة وأنظمتها، كما يعطي القرار وطريقة تنفيذه مؤشرات قوية على اعتبار المكتب وكل الضفة الغربية منطقة خاضعة للاحتلال العسكري المباشر، وأن القائد العسكري للمنطقة وقع باعتباره قائدًا ليهودا والسامرة، وذلك ينسجم مع الخريطة التي عرضها بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية مؤخرًا والتي اختفت منها الضفة الغربية بالكامل، وظهر مكانها هذا المصطلح.
كما ينسجم ذلك مع كل النشاطات العسكرية وغير العسكرية التي يقوم بها الاحتلال ليل نهار في كل أنحاء الضفة فضلًا عن تصريحات نتنياهو ووزرائه المتطرفين، ومنهم بن غفير وسموتريتش، الرافضة لأوسلو والسلطة، والداعية إلى ضرورة إنهاء وجودها، ورفض الدولة الفلسطينية وحل الدولتين .
وثمة مبرر خطير آخر لهذا الإجراء يجب الانتباه له؛ فلماذا لا يكون بداية لعملية ضم فعلي وإعادة احتلال عسكري تهويدي لكامل الضفة، وإنهاء لوجود السلطة الفلسطينية، ولا يرغب نتنياهو أن تقوم الجزيرة بتغطية هذه العمليات التي سيدوس خلالها الاحتلال على كل المواثيق والاتفاقيات، وكل مظاهر السلطة الإدارية أو الأمنية وما يرافق ذلك من مجازر وجرائم حرب مما يمكن أن يجر ردود فعل عالمية، ويوفر مادة جديدة للمحاكم الدولية التي تستعد لإصدار مذكرات اتهام بحقه وبحق وزير دفاعه غالانت.
فلقد سبق أن قتل أحد قناصي الاحتلال بدم بارد أيقونة الجزيرة في فلسطين شيرين أبو عاقلة في مخيم جنين بالضفة الغربية، وقصف الاحتلال مقر الجزيرة في غزة ودمره، كما قتل المصور سامر أبو دقة وحمزة وائل الدحدوح، وبعدهما المراسل الشاب إسماعيل الغول، كما أصاب الصحفي الكبير وائل الدحدوح وعددًا كبيرًا من زملائه من طواقم الجزيرة وعائلاتهم، كما قتل الاحتلال نحو مائة وسبعين صحفيًا وإعلاميًا فلسطينيًا في قطاع غزة خلال العدوان المتواصل منذ عام تقريبًا.
من الواضح أن نتنياهو يفضل قتل الشاهد لعله ينجو من الملاحقة القانونية والأخلاقية، وليتمكن من ممارسة أبشع أساليب التنكيل والإجرام بحق الشعب الفلسطيني: أطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه ومدارسه ومساجده وكنائسه ومستشفياته ومؤسساته، تمامًا كما فعل في قطاع غزة، وهو ما بثته الجزيرة وقنوات أخرى على الهواء مباشرة في كثير من الأحيان.
وأيًا كان السبب الذي دفع الاحتلال لاتخاذ قراره بإغلاق مكتب الجزيرة، فلقد سقطت ورقة التوت عن هذا الاحتلال ودولته التي سوّقت نفسها على مدى عقود بأنها واحة الديمقراطية أو الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وانكشف الستار عن دولة تمارس أبشع أنواع القمع للحريات، ومنع وصول الحقيقة للعالم حول ما تقوم به من جرائم بشكل منهجي بحق شعب مضطهد يقبع تحت احتلال عسكري همجي منذ خمسة وسبعين عامًا.
لقد صمت العالم طويلًا عن حالة القمع المتواصلة والممارسات التي تصنّف ضمن جرائم الإبادة والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية وواصلت الجزيرة رسالتها في أقسى الظروف؛ لنقل صور المعاناة الإنسانية الفلسطينية، ونقل حكاية الإنسان والزمان، وقدمت صورة ناصعة لإعلام عربي ودولي مهني ورصين وقادر على المواكبة والسبق ووضع الأحداث في سياق موضوعي سليم.
ولا يضيرُ الجزيرة قرار الاحتلال بإغلاق مكتب جديد، فالجزيرة ليست إلا رسالة ينقلها صحفيوها من كل مكان، مهما كانت الظروف، وستبقى الجزيرة شوكة في حلوق المجرمين يزعجهم وجودها كما أزعجتهم صورة شيرين أبو عاقلة المعلّقة على مبنى الجزيرة، فسارعوا إلى تمزيقها.
ولكن ثمة مسؤولية كبيرة على المؤسسات الإعلامية الدولية التي ينبغي أن تكسر حاجز الصمت وترفع الصوت، وأن تتخذ مواقف أكثر صرامة بحق الاحتلال ومطالبته باحترام مواثيق العمل الإعلامي وحرية الصحافة وحماية الصحفيين.