من المغالاة في القول في الظروف الحالية إن حرب الإبادة التي تقترف في غزة كشفت العجز العربي الرسمي ، و من قبيل المزايدة ، ليس أكثر، الادعاء بأن هذه الأنظمة العربية الجاثمة فوق رؤوسنا كانت ، أو هي حاليا قادرة على التصدي لخطر حقيقي ، لا يقتصر على جزء معين من الخريطة العربية . بل من قبيل القول بالسماء فوق رؤوسنا التأكيد أن الطبيعي هو الذي حصل ، بأن اتخذت المقاومة الفلسطينية المبادرة في مقاومة احتلال و استعمار و استيطان ، و واجهت وحيدة تداعيات مبادرتها ، و دفع الشعب الفلسطيني الثمن غاليا . في حين اكتفت الأنظمة العربية بردود فعل متباينة ، و لكنها في جوهرها تخفي رفضها الاعتراف بعدم اتفاقها على ما أقدمت عليه المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر ، و عجزها على حماية الشعب الفلسطيني .
الطبيعي فيما حدث أن تقف ردود الفعل العربية الرسمية تجاه ما حدث عند الحدود التي وصلتها ، بما في ذلك مستوى المزايدات، التي تحولت فيها مأساة الشعب الفلسطيني إلى لحظة إغراء و استقطاب انتخابي عابرة . ولم يكن أحد يراهن على أن تعرف ردود الفعل العربية الرسمية نقلة نوعية تمكن الأمة العربية من امتلاك آليات و إمكانيات مواجهة العدوان الخطير الذي تتعرض له الأمة العربية حاليا من بوابة غزة . و من المغالطة و دغدغة المشاعر الشعبية العربية الادعاء أيضا بأن هذه المواجهة سهلة و تتوقف فقط على قرار ما تتخذه حكومة عربية ما ، أو نظام عربي ما ، في عاصمة عربية ما ، لأن المواجهة لا تقتصر على احتلال غاشم كان ممكنا محوه في زمن قياسي ، بل إن حرب الإبادة تقترف من طرف قوى شر كثيرة و متعددة تقودها أكبر قوة عالمية ، لم تدخر لحد الآن أي جهد في ضمان كافة شروط و ظروف اقتراف ما يقترف من جرائم حرب و إبادة حقيقية ، وتعاملت بسخاء غريب و مثير مع حكومة الاحتلال بأن وفرت له أكثر مما تحتاج من المال و أسلحة الدمار و الجنود و التغطية الديبلوماسية القوية و إخضاع وسائل الإعلام . وتبعها قطيع كبير من الدول الغربية و الآسيوية في هذا الدعم . و وقفت الأمم المتحدة عاجزةً ، وأهين مجلس الأمن الدولي غير ما مرة ، و احتقرت قرارات قضائية دولية صادرة عن محكمة العدل الدولية و المحكمة الجنائية الدولية ، و بدا أن الاحتلال مجرد أداة تنفيذ فيما يرتكب من جرائم ضد الإنسانية ، و أن قرار وقفها من عدمه بيد القوى العظمى الداعمة. لذلك من المنطقي التأكيد في هذه الظروف الدقيقة و الصعبة على أن بنية الأنظمة العربية و اختلال علاقاتها البينية وقوة ارتباط الغالبية منها بالقوى العظمى. كل هذه المعطيات لم تكن تسمح بأكثر مما أبدته الحكومات العربية من ردود فعل تجاه ما يقترف ضد الشعب الفلسطيني من جرائم فظيعة تكاد تكون غير مسبوقة في التاريخ البشري الحديث، والتي لم تتجاوز انتظار أن يفرغ العدو من اقتراف ما يقدره ملائما و مناسبا من جرائم و مذابح و مجازر و محارق و تدمير و تهجير، لتعلن عن استعدادها لتقديم ما يحتاجه من تبقى من سكان غزة من مساعدات غذائية و طبية و اجتماعية .
كل ذلك طبيعي و منتظر و معلوم لدى الرأي العام داخل العالم العربي و خارجه ، لكن الجديد فيما حدث أن التطورات المتسارعة المتعلقة كشفت عن زيف بعض ما كان يبدو حقائق ثابتة، فهذا الجيش القوي الذي لا يقهر يواجه فشلا ذريعا في مواجهة، ليس جيشا أو جيوشا نظامية ، بل في مواجهة مقاومة ببضعة عشرات الآلاف من المقاومين، وإن مخابرات قيل إنها جبارة و خارقة بما تملكه من آليات تقنية و تكنولوجيا متطورة، في البر كما في البحر كما في السماء، وأساليب عمل خارقة عجزت منذ سنة تقريبا عن الوصول إلى أسرى و محتجزين يوجدون في مواقع قريبة منها، وإن تحالف الشر العالمي الذي يجمع أكبر و أعتى القوى العالمية من مختلف قارات العالم يراكم الفشل في غزة كما في كييف تماما .
لذلك غزة لم تكشف العجز العربي الرسمي، لأنه كان معلوما و معروفا، بل إنها فندت ما كان حقائق ونزعت الأقنعة عن وجوه كثيرة قبيحة.