مازلت أتذكر رد مارك تومسون في اليوم الأول من تقلده رئاسة تحرير صحيفة “نيويورك تايمز” عام 2012، هو البريطاني في مواجهة الغرور الصحفي الأميركي، عندما شكَكَ عدد من الصحفيين في كفاءته، قال لهم على مهلكم! لا يمكن أن أوصف بغير الصحفي، ومن مَن؟ من زميل صحفي آخر. فأنا قادر على كتابة قصة إخبارية من 1500 كلمة خلال أربعين دقيقة.
تومسون نفسه لم يجد ما يرد به عندما تولى منصبه الجديد كرئيس تحرير ومدير تنفيذي لشبكة “سي.أن.أن” الإخبارية وبعد يومين على اندلاع حرب إبادة غزة نهاية العام 2023.
لقد أصدر هذا الصحفي الذي طالما اعتبر أن فكرة الحياد في الإعلام المعاصر لم تعد مقبولة، تعليماته لموظفي شبكة “سي.أن.أن” تشجع على نشر الدعاية الإسرائيلية وفرض رقابة على وجهة نظر الجانب الفلسطيني، لأنه يؤمن بالأساس بأن قواعد الحياد على شاشات التلفاز أضحت قديمة ولا مكان لها في مجتمع الفضاء الإعلامي المفتوح على الإنترنت.
مهما يكن من أمر، فتومسون، بعد نجاحه في رئاسته تحرير “بي.بي.سي”، ثم جعل صحيفة “نيويورك تايمز” علامة مميزة لنجاح الاشتراكات الرقمية، حيث تجاوز عدد المشتركين في نسختيها المطبوعة والرقمية، عتبة الخمسة ملايين مشترك، أمام مهمة تعليب الأخبار وتسليعها وإغراء الجمهور لشرائها من شبكة “سي.أن.أن” بعد تراجع قيمة تسميتها القديمة كإمبريالية للبث الفضائي.
يحتاج هذا الصحفي الذي لا يُشك ببراعته كما فَعلَ صحفيون أميركيون قبل سنوات، في منصبه كرئيس تنفيذي لأكبر شبكة إخبارية في العالم، إلى أكثر من إصدار التعليمات بشأن قواعد الحياة لينجح في تعليب وبيع الأخبار، من شبكة تلفزيونية تعاني الكساد منذ سنوات.
قبل ذلك علينا أن نسأله من يشتري الأخبار يا سيد تومسون؟ صحيح ثمة تقاليد مازالت قائمة لدى القراء الأوفياء للصحيفة ساعدت في نجاحك في “نيويورك تايمز” لكننا أمام بدائل هائلة لجمهور صار يفضل الترفيه التلفزيوني على الأخبار بعد أن أسقط المواطن الصحفي أهميتها وسرعة تداولها.
بدأ المدير الجديد لشبكة “سي.أن.أن” الإخبارية مهمته بإلغاء نحو 100 وظيفة، وإطلاق خدمة جديدة مدفوعة في منتج إخباري بكلفة تزيد عن مليار دولار قبل نهاية عام 2024، يوفر أخبارا “يجب معرفتها وتحليلات في صيغ وتجارب مقنعة”، ووعد بإستراتيجية رقمية أكثر قوة مع هروب الناس من باقات الكابلات لصالح التلفزيون التقليدي.
كتب تومسون في مذكرة إلى الموظفين، “تحويل مؤسسة إخبارية عظيمة نحو المستقبل ليس بالأمر السهل، بل يحدث على مراحل وعلى مدى فترة من الزمن. إن إعلانات اليوم لا تجيب عن كل الأسئلة ولا تسعى إلى حل كل التحديات التي نواجهها. ومع ذلك، فإنها تمثل خطوة كبيرة إلى الأمام”.
حسنا، ما هي الأخبار التي يجب معرفتها؟ وهو تعريف جديد للخبر يعيد تومسون كما يعيدنا إلى التعريف التاريخي الذي دونه اللورد نورثكليف مؤسس صحيفة “ديلي ميل” قبل قرن تقريبا، حين اعتبر أن الأخبار معلومات يريد أحدهم منع الناس من معرفتها، وما تبقى هو مجرد إعلانات.
فهل بمقدور المدير الجديد لإمبريالية البث الفضائي صاحبة المجد الآفل أن يعيد تعليب الإعلانات السياسية بوصفها أخبارا ويعيد بيعها؟
يعترف داريل هوليداي الذي يعمل في منظمة صحافة مدنية غير ربحية في شيكاغو، بأن فشل الصحفيين في تلبية حاجة المجتمع ليس سابقة في التاريخ، لذلك علينا أن نتساءل ما هي نوعية الأخبار التي يبحث عنها الناس اليوم، من أجل صناعة نماذج جديدة؟
مع ذلك دعونا نترقب بلهفة الأخبار التي تغير مزاج الجمهور الذي يعيش صراعات ثقافية سامة تحت تأثير البث الرقمي، كي يفكر باستقطاع ثمن قهوته من أجل دفعها إلى “سي.أن.أن” لشراء الأخبار.
(عن/صحيفة العرب)