رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
قراءة في كتاب «شقيقي داود» للكاتب جميل السّلحوت ....صباح بشير: سيرة غيريّة وقصة صعود


المشاهدات 1811
تاريخ الإضافة 2024/01/28 - 8:35 PM
آخر تحديث 2024/12/07 - 9:11 AM

تُعدّ السّيرة الغيريّة سجلّا لحياة إنسان، يخطّه قلم غير صاحبه، فهي رحلة عبر الزّمن تعيد إحياء قصة إنسانيّة بكلّ تفاصيلها، من لحظة الولادة إلى لحظة كتابتها. تشبه رحلة استكشافيّة، ينطلق فيها الكاتب باحثا عن خيوط حياة شخص آخر، مستعينا بالوثائق والمخطوطات، وروايات الشّهود وصور الماضي.
تُبنى السّيرة الغيريّة على قاعدة من الحقائق، مستخدمة أسلوبا أدبيّا يضفي عليها سحرا خاصّا، فهي ليست مجرّد سرد للأحداث، بل هي رحلة عبر أفكار ومشاعر بطلها، تسلّط الضّوء على تجاربه وتأثيرها على مسار حياته، وتشكل جسرا بين الماضي والحاضر، تعرّفنا على شخصيّات مؤثّرة وتلهمنا الدّروس من قلب التّجارب، وتساعدنا على فهم العالم من حولنا بشكل أفضل.
إذن، فالسّيرة الغيريّة نوع أدبيّ جميل، يجمع بين الدّقة التّاريخيّة والسّرد الأدبيّ، ليقدم لنا قصة إنسانيّة ملهمة تثري حياتنا وتوسّع آفاقنا.
كتاب «شقيقي داود- سيرة غيريّة» للأدب جميل السّلحوت، يقع في (200) صفحة.
يكتب السلحوت في مقدّمة كتابه: لفت انتباهي أديبنا الكبير محمود شقير في تقديمه للسّيرة الغيريّة التي كتبتها سابقا بعنوان «ابن العمّ أبو شكاف» عندما كتب: «وإذا كان مألوفًا ظهورُ سِيَر ذاتيّة أو غيريّة للمثقّفين والأدباء والفنّانين ورجال السّياسية، فلماذا لا يكون مألوفًا بل مطلوبًا ظهور سِيَر لرجال الأعمال النّاجحين، الّذين صنعوا نجاحهم بجدّهم واجتهادهم، وليس عن طريق الغشّ والتّزوير والسّرقة والاستغلال، وكذلك لغيرهم من الكفاءات في حقول العلم والتّجارة والاقتصاد، وغيرها من الحقول التي تميّزت فيها فلسطينيّات، وتميّز فلسطينيّون يستحقّون أن تُذكر أسماؤهم، وأن تُدوَّنَ تجاربهم للاقتداء بها، فلا يطويها النّسيان».
يشار إلى أنّ الأديب السّلحوت قد كتب من قبل سيرته الذاتيّة في كتابين هما «أشواك البراري-طفولتي» و» من بين الصّخور-مرحلة عشتها».
سيرة داود:
يُقدّم لنا الأديب السّلحوت سيرة شقيقه داود المولود عام 1963م، مسلّطا الضّوء على تميّزه اللافت منذ ولادته، وصولا إلى مسيرته الحياتيّة الحافلة بالإنجازات.
يصرّح الكاتب أنّ اختياره لكتابة سيرة داود لا ينبع من تحيزه لشقيقه دون إخوته الآخرين، بل لِما يمتلكه من معرفة عميقة بتفاصيل حياة داود منذ ولادته.
لقد عاش السّلحوت مع داود في بيت واحد حتى سفره إلى أمريكا عام 1988م، فكان بمثابة الأخ الأكبر المسؤول الذي تابع مسيرة داود الحياتيّة عن كثب. وقد زاره وشقيقه الأصغر «راتب» في أمريكا أكثر من خمس وعشرين مرة، كما حرص على زيارته في الوطن بشكل متكرّر. وما زال التّواصل بينهم حميميّا بعد عودة داود للاستقرار في الوطن عام 2021م.
يركّز الكاتب في سيرة داوود على تميّزه اللافت منذ ولادته، ونجاحه في حياته العمليّة بفضل جدّه واجتهاده، فهو يمثّل قدوة يحتذى بها، مما يضفي أهميّة بالغة على تدوين سيرته.
يتطرّق في سرده إلى جذوره العميقة، يتناول البيئة التي نشأ فيها بكلّ تفاصيلها، يرسم صورة حيّة للواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والعلميّ الذي عاشه وأخيه في طفولته، يقدم رحلة عبر الزّمن يمضي بها إلى مسقط رأسه، حيث نشأ وترعرع. يعرّفنا على عائلته وأصدقائه، ويشاركنا ذكرياته، مبرزا تأثيرها عليه وعلى أخيه، يحلّل الواقع الاجتماعي الذي عاشه، مشيرا إلى التحدّيات والعقبات التي واجهها وأخيه داوود، كما يركّز على القيَم والتّقاليد التي سادت في تلك الفترة، يناقش أيضا الواقع الاقتصاديّ متطرقا إلى الأوضاع المعيشيّة للنّاس، وفرص العمل المتاحة، ومستوى المعيشة بشكل عام، ولا يغفل عن الواقع العلميّ وتأثيره على حياتهم.
يعقد داوود العزم على السفر إلى أمريكا، مؤمنا إيمانا راسخا بأنّه سيحقق هناك أحلامه وطموحاته. كان يدرك أنّ العمل الجادّ والاجتهاد هما مفتاح النّجاح، وأنّ المثابرة تؤتي ثمارها في نهاية المطاف.
كان حلمه الأساسيّ هو الاستثمار في مشاريع داخل البلاد، فهو يريد أن يوفّر فرص عمل لأبناء العائلة؛ ليساعدهم على تحقيق استقلاليتهم الماليّة والوصول إلى حياة كريمة.
لم يكن ذلك الحلم مجرّد رغبة في الثّراء، بل كان مرتبطًا برغبته في مساعدة عائلته وتحسين ظروفهم المعيشيّة. كان يريد أن يُؤمّن لهم حياة كريمة تحقّق لهم الاستقرار والسّعادة. وكان على دراية بالتحدّيات التي ستواجهه في أمريكا، لكنّه كان مؤمنًا بقدراته وإمكانياته، فهو يدرك تمام الإدراك أنّ العمل الجادّ والمثابرة هما السّبيل الوحيد لتحقيق أحلامه.
الوجه الآخر للمهاجرين العرب، رحلة بين النّجاح والضّياع:
يكتب السّلحوت: في حواراتي مع شقيقي داود حول أوضاع المهاجرين العرب في أمريكا، كشف لي عن صورة مزدوجة للواقع هناك، فبينما تعدّ أمريكا إمبراطورية غنيّة ومتطورة، تتيح فرصا لا حصر لها للجادّين، تخفي أيضا وجها قاتما لمن يفرّط في طاقاته.
يؤكّد داود أنّ أمريكا تمثّل حلما للكثيرين، فهي بلد الفرص لمن يحسن اقتناصها، فالنّظام الرّأسمالي فيها يكافئ العمل الجادّ والمثابرة، ولا مكان فيه للكسالى أو المتواكلين، ويشير أيضا إلى وجود العديد من العرب النّاجحين في أمريكا من متعلّمين وغير متعلّمين، فهؤلاء اتّخذوا من العمل الجادّ والمثابرة نهجا، وحقّقوا النّجاح والرّخاء.
لكنّ الصّورة لا تخلو من الجانب المظلم، ففي أمريكا أيضا سبل الضّياع موجودة بجانب سبل النّجاح؛ فالمخدّرات والملاهي تشكل خطرا على كلّ من يفرّط في طاقاته ويهمل نفسه.
يروي داود قصة فلسطينيّ ثريّ أرسلته عائلته لحضور حفل تخريج ابن شقيقته، لكنّ الأمور لم تجرِ كما هو مخطط لها، فبعد تخرّج ابن شقيقته وعودته إلى البلاد، ضاع الخال في متاهات أمريكا. باع أملاكه وترك زوجته وأبناءه، وأضاع كلّ ما يملك على موائد القمار والمخدّرات.
يذكر الكاتب أنّ بعض العرب ينجرفون وراء أحلام الثراء السريع، فيلجأون إلى تجارة المخدّرات، ممّا يؤدّي إلى ضياع أعمارهم في السجون. وينتقد ظاهرة زواج بعض العرب من أمريكيات بقصد الحصول على الجنسيّة، ثمّ تطليقهم بعد تحقيق هدفهم متخلّين عن أبنائهم دون أيّ مسؤوليّة. يتحدّث عن ظاهرة إنجاب بعض العرب من أمريكيات دون الاعتراف بأبنائهم، ممّا يؤدّي إلى ضياعهم وسط صخب الحياة الأمريكيّة. كما يقدّم قصة ستيف جوبز مخترع الأيفون، كنموذج مؤلم لطفل عربيّ ضاع وسط المجتمع الأمريكيّ، فقد تركه والده العربيّ السّوريّ عبد الفتاح الجندلي، مع والدته الأمريكية جوان شيبل؛ لينشأ في كنف عائلة أخرى.
خلاصة القول: تؤكّد هذه الظّواهر على أهميّة الوعي بالمخاطر التي تهدّد العرب في أمريكا، والتّمسّك بالقيم الأخلاقيّة والمسؤوليّة الاجتماعية، للحفاظ على استقرار العائلة والمجتمع.
كما تقدّم رحلة المهاجرين العرب في أمريكا نموذجا مزدوجا، فبينما يحقّق البعض النّجاح والرخاء، يواجه آخرون خطر الضياع. وتؤكّد هذه الصّورة على أهميّة العمل الجادّ والمثابرة، والابتعاد عن كلّ ما يؤدّي إلى الضّياع والانهيار.
ختاما، تُمثّل هذه السّيرة رحلة مثيرة عبر صفحات حياة حافلة بالإنجازات والذّكريات، تقدّم للقارئ معلومات كثيرة عن حياة السّلحوت وشقيقه داود، وتعرّفه على شخصيتهما معا ومبادئهما وأفكارهما. ولا شكّ أنّ هذه العجالة لا تغني عن قراءة السّيرة كاملة، ففيها الكثير من التّفاصيل والمشاعر التي لا يمكن حصرها في بضعة أسطر.
إنّ قراءة هذه السّيرة تتيح للقارئ فرصة التّعرّف على تجربة إنسانيّة مختلفة، وفهم العوامل التي ساهمت في تكوين شخصيّة داود ونجاحه في حياته.
أُوصي بقراءة هذه السّيرة لمن يودّ أن يتعرّف على قصة إنسان مثابر واجه التّحدّيات وحقق أحلامه.


تابعنا على
تصميم وتطوير