رواية عراقية توظف السخرية لإدانة الاحتلال والفساد
ثقافية
أضيف بواسطة zawraa
الكاتب
المشاهدات 1201
تاريخ الإضافة 2019/01/01 - 5:13 PM
آخر تحديث 2025/05/31 - 10:18 AM

رواية “الساخر العظيم” للروائي العراقي أمجد توفيق تعالج العديد من الوقائع العراقية بعد الاحتلال الأميركي.
الناقد العراقي / علي حسن الفواز
لعبة السرد تقومُ على لعبةِ خرقِ التاريخ، وعلى اجتراحِ أحداثٍ وشخصيات يتداخلُ فيها الواقعي مع الفنتازي، واليومي مع العمومي، وحين تتحول هذه اللعبة إلى شهادة، أو خطاب، فإنّ إشهارها كمدونة، أو كنصٍ روائي سيكون هو المعيارُ الذي تقوم على أساسه تجريبية لعبةِ الخرق، وفاعلية تداولها على مستوى القصدية، أو الصيغة، أو على مستوى تعاطيها مع أحداث مفارقة، أو إعادة تصميمها كأُطرٍ تُعزز مفهوم التحبيك الروائي ومبناه النصوصي.
رواية “الساخر العظيم” للروائي العراقي أمجد توفيق تضعنا أمام تعاليات نصية عديدة لهذه الرواية، في شعريتها، وفي واقعيتها، وفي سردها التخيّلي، وفي معالجتها لعديد الوقائع العراقية بعد الاحتلال، بدءا من واقعة الاحتلال، وإلى مظاهر الفساد السياسي والإعلامي، وانتهاء بأحداث احتلال مدينة الموصل من قبل الجماعات الإرهابية في يونيو عام 2014. الكتابة الروائية عن الوقائع العراقية تتطلب جهدا ووعيا حادا، للإمساك بتفاصيل واقع متداخل ومثخن بالأحداث الغريبة، وخلق عالم روائي فاضح ومؤرخ ولم لا ساخر أيضا، وهو ما ذهب فيه الكثير من الروائيين العراقيين الذين واجهوا الواقع بالسخرية وبتقنيات متداخلة تمزج السرد بما ليس منه وتمزج الواقع بالفنتازيا والشخصيات بهويات مختلفة متآلفة ومتنافرة.
فضح الواقع
عتبة العنونة هي المتعالية الأولى في الرواية، والتي تُحيلُ إلى دلالة أنْ يكون “الساخر العظيم” هو الشاهد على ما جرى، وأنّ فعل السُخرية هو جوهر الخطاب الضدي في التعبير عن تلك الوقائع، وعن مفارقتها، وعن طبيعة ما تُمثّله صيغها من شفراتٍ لعرض الوحدات السردية في الرواية، على مستوى البناء الحدثي والنصوصي، أو على مستوى تداخلها مع عناصر أخرى في الرواية، أو على مستوى إبراز وظائفية التقانات السردية، وتأثيراتها على توصيف ما هو خطابي في البنية الإطارية للرواية.
وبقدر ما تحمله هذه العنونة من إشارات، ومن قصدية نصيّة، فإنها وضعت المادة الحكائية في سياقِ معروضات، قارب فيها الروائي، الأحداث والشخصيات، عبر إبراز هوية الخطاب الروائي، وعبر ربطها مع تمفصلات الزمن والمكان، فضلا عن قصديته في الكشف عن “المسرود الذاتي”، حيث قاربت الرواية سردية الميتاسرد، وسردية الهوية وسردية الأسماء، وعبر رصد تداخلها النصوصي، وعبر طرائق اشتغالها، ومن خلال تأطير فاعلية الخطاب السردي بوصفه خطابا إشهاريا يقوم على ضدية الاحتلال والفساد، الاستبداد والإرهاب. إذا كان زمنُ الحدث الواقعي يبدأ بعد احتلال العراق عام 2003، فإن الزمن السردي في الرواية يتشكّل عبر فاعلية فضح هذا الواقع، ومن خلال مواجهة احتلال الموصل، وفساد الوقائع العراقية، ومن خلال لحظة سبي النساء الأيزيديات، واختفاء الشابة بهار في بيت إبراهيم الأصيل، وهو ما أفضى إلى “تداخل نصوصي” له تداخل زمني، على مستوى علاقة هذا البيت بالاختفاء، أو على مستوى علاقة البيت ذاته بالكشف عن المخطوطة وعن طلاسم أرقامها وشفراتها.
هذه المُفارقَة تتبدى من خلال جُملةٍ من المناصات تلك التي تجعل من نص السخرية مجسّا لتعرية الواقع، ولفضح الإرهاب وتوحشه، فضلا عن فضح مؤسسة “فهد الجاسر” الإعلامية، ولفضح الخراب والفساد اللذين أشاعهما الأميركان في مثل تلك المؤسسة، ولفضح شخصياتها الانتهازية الفاسدة والمشوهة جنسيا ووجوديا (ديك ستيوارت، ناظم، علي، نور، ندى) مقابل ما تقترحه لعبة السرد من معطيات تقوم على أنسنة تلك المُفارقة، حيث تتبدى شخصيات عائلة الأصيل وكأنها النوع الضدي، في استقامتها، وفي دفاعها عن الواقع/ المدينة/ البيت، وفي حماية بهار الأيزيدية، وفي إسناد جماعة المقاومة في المدينة، وفي أنسنة فكرة “البطل الإيجابي” عبر شخصيات تلك العائلة “سيف، سعد، جلال” وعبر شخصيات أبناء المدينة “بارق، هاني الأعمى وولده”.
اختار الروائي تقانة الميتاسرد ليقدّم لنا نوعا من التداخل النصوصي، بين سرديات الواقع التي تتحدث يوميات المدينة، وبين سرديات المخطوطة تلك التي يتحدّث فيها الجد عن حياته، وعن علاقاته، وعن فحولته الجنسية، وعن أسرار هويته المُلتبسة، وهو ما جعل هذه التقانة ذات قصدية واضحة في أنسنة موضوع الهوية، تلك التي اشترك في حفظ وديعتها المسلم والأيزيدي والمسيحي واليهودي، وهي شفرة رمزية لهوية المدينة الإنسانية والكوزمولبيتية ذاتها.
الرواية تجعل من نص السخرية مجسّا لتعرية الواقع، ولفضح الإرهاب وتوحشه، فضلا عن فضح الماضي والحاضر.
الشخصيات والسرد
نصية المخطوطة هي المتعالية الثانية في الرواية، إذ أراد الروائي أنْ يوظفها في كسر إيهامية الواقع، والتوقع، ومحاولته لاستغوار ذاكرة المدينة، والكشف عن عمقها الإنساني والفحولي من خلال سحرية الكنز والوديعة، وبما لهما من دلالات ذات بُعد إنساني ونفسي وجنسي وعلاماتي، والتي اقترح لها علاقات تتبادل فيها الأدوار الحكائية من جانب، مقابل العلاقات التي يتقصّدها الروائي، والتي يبدو فيها الحاضر ليس بعيدا عن الماضي، لا سيما وأنّ عائلة الأصيل تملك شحنة سيميائية تبرر وجودها الرمزي والأخلاقي والتجاري في سياق الرواية، ومن خلال ما تملكه من أثرٍ تاريخي أو حكائي، هو سر قوتها في تأطير المبني الحكائي لسيرة العائلة منذ عام 1933 مع مجزرة “سمّيل” وعند عام 2014 مع مجزرة احتلال الموصل.
إن صيغة الخطاب المسرود في الرواية، الصادرة حديثا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع بعمّان، تنطلق في جوهرها من الأدوار التي تقوم بها الشخصيات، فبقدر ما تمثله من أصوات، فإنها أيضا تعكس تمفصلات الواقع من خلال تمفصلات السرد، حيث يتحول هذا السرد إلى منطقة تبئير يسعى من خلالها الروائي لتجميع أحداث روايته، ولإعطاء فكرة شاملة لتوصيفها، وللكشف عن الصراعات التي تستغورها، وعن ما تبلوره من مواقف إزاء التاريخ، والأحداث، وإزاء الاحتلال، وإزاء الفساد، والرغبة، والآخر “الهوياتي” أيضا، فشخصية بطل الرواية “سيف الأصيل” تتحرك عبر الواقع، بوصفه الشاهد والساخر، والفاعل في المجال الإعلامي، فضلا عن حركته كبراديغم إشكالي للمثقف والفحل، وهي ثنائية تُعيدنا إلى نماذج اشتغل على ثيماتها الروائيان جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف..
كما تتحرك شخصية ابن عمه “سعد الأصيل” في سياق بطولي بمزاج رومانسي ثوري، وبخفّة تتمثلها مواقفه من بهار ومن أخيه، ومن خلال هواجس تتبعه لسيرة المخطوطة والوديعة في البيت القديم.
أما شخصية “فهد الجاسر” فتتحرك بوصفها أنموذجا للتمفصل السلبي مع الواقع، ومع طبيعة الرسالة الإعلامية التي يصنعها المحتل الأميركي، وكذلك حركة شخصيات “نور، ندى” لا تنفصل عن سياق تكامل سينوغرافيا المشهد السردي الذي يصنعه فهد الجاسر، فضلا عن شخصيات “أبوحفصة الداعشي، وحسن العفري، وسامي” حيث تتحرك استجابة لسرديات التطرف والكراهية والانتهازية، وتبقى شخصية “بهار” الأنموذج الإيجابي للسردية الأنثوية، فرغم ما تعرضت له من سبي واغتصاب من قبل الدواعش، إلّا أنها ظلت متماسكة، صلبة، تعشق الحياة، وتبحث عن الحب، وهو ما وجدته في علاقتها مع “سعد الأصيل” الذي تزوجها تأكيدا للنزعة الإنسانية، وليس كحلٍ سردي افتراضي.
شخصية بهار الأيزيدية عكس الشخصيات الأنثوية الأخرى في الرواية، واللائي ظهرنّ وكأنهنّ نساء لذة عابرة، عاجزات، ومحبطات، ويجدنّ في الهروب نهاية لوجودهن في الواقع وفي السرد أيضا.