رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
رواية بابل سامي ـ مور 2.. الحدث في دلالته المنتجة


المشاهدات 1216
تاريخ الإضافة 2018/12/16 - 5:27 PM
آخر تحديث 2025/04/28 - 8:35 PM

ابراهيم سبتي ان اية رواية او عمل ادبي اخر مهما كان تجنيسه وهو يحاول استحضار التاريخ ورموزه وتحليل شفراته وسبر اغواره، لهو عمل يحمل دلالة التمكين والثقة بأدوات كاتبه وهو يمخر عباب قرون خلت ويغوص في اعماقها بأخذها دراميا وجعل اركانه تتداخل مع الواقع المعاصر بطريقة مثلى لينتج حكاية معاصرة ممزوجة بآلام ومكابدات وهزائم وانتصارات الماضي الاثير بكل تفاصيله .. ان استدعاء التاريخ في رواية معاصرة، محاولة جريئة في كسر الانماط السائدة في الروي المنشور اليوم، وبالتالي فان هكذا اجراء سيكون بمثابة تذويب الاحداث التاريخية الكثيرة في ثنايا السرد المكتوب بلغة مفهومة وواضحة فأعطي فعل الحدث دفقة من الحياة في اروقة المحكي التاريخي الجامد المجرد . من هنا كان لابد للروائي علاء مشذوب ان يقتحم تلك العوالم الخفية والغامضة احيانا بروايته الجديدة بابل سامي ـ مور 2 الصادرة عام 2018، لينتج مزاوجة ممتعة ومنسقة بان عليها الترتيب واناقة الجمل المتهافتة في الاسطر المنسالة على البياض المسرور بالروح اللذيذة المنسكبة بكل جرأة على سطح الورقة التي حولها مشذوب كساحة صراع وفضاء تحتدم فيه القصص. وفي تقديري أن علاء مشذوب، استطاع أن يعطي حيزا من روحه وذاته في كتابة هذه الرواية المتداخلة والمتشعبة حد الامتاع، اذ ادخل فيها ما يملكه من خبرة روائية طويلة ناتجة عن تراكم الوعي السردي من خلال عدة روايات صادرة له وبنفس الهمة وطراوة السبك، مما اجاز له التحرك الحر واليقظ والتفاعل في ساحة الرواية موضوع البحث فاقنعنا بفنه بان يمضي بنا ونحن نمسك بذوائب الكلام المنسال بهدوء العارف، الى الذروة والانتشاء حين وجدنا السرد منثالا ومنبسطا في استقبال وفهم الشفرات التي يريد الروائي ايصالها بقوة وموهبة دون ضغط او تعسف او اشتراطات وصار القارئ امام تداخل متجانس بين التاريخ واحداثه ومروياته المتشابكة والمعقدة، وبين الخيال الروائي الفطن لعلاء مشذوب، فكوّن مزيجا مقبول المذاق مليئا بالشاعرية وحلاوة المطاولة صانعا جهدا معجونا بالسحر الدرامي للحدث مبتعدا بذكاء عن مهمة المؤرخ وكاتب الاحداث. ان اتخاذ العنصر التاريخي كأحد اعمدة السرد في رواية علاء مشذوب ( بابل سامي ـ مور الجزء الثاني )، يجعله اكثر مرونة في التحرك ضمن مسار اكثر انفتاحا في العمق الاثري التاريخي وهو يعرض الثيمة المحكية في اجواء من الخيال المنتج وليس في اجواء مادية بحتة لا تصنف في خانة الخيال الروائي والقريبة من كونها تاريخا مؤرخا لشخص يحب التاريخ المؤطر بالمدونات حسب، لكن مشذوب جر الاشياء الى خانة الروي المصحوب بالخيال المستنفر وبالتالي كانت الشخصية الروائية العميقة ( تموز ) هي احدى نتاجات الفكر الروائي الخصب وليس الفكر المادي المجرد . فتحركت الشخصية في ساحة مكشوفة للآخرين ولكنها ظلت تخبئ افكارها واشكالياتها الخاصة في مجال التصوف والتدين والامعان في ما يدور من حولها من اسئلة والغاز ونوايا وهي اجرأ الشخصيات عندما عمل مع البعثة الالمانية التي ساعدها في سرقة اثار بلاده من اجل انقاذ اهله .. يقتفي الروائي اثر ( نذير ) شخصيته الرئيسية الاخرى القادمة من المنتفك جنوب العراق مهد الحضارة السومرية ومصدرة الحروف والشعر الخالد المصدّر للعالم المتمدن .. ( كان نذير يسير على خطى اجداده يهاجر من ارض الجنوب الى حيث الشمال، بينما كانوا يحملون سفرهم من الحضارة ليستمروا بنقله الى هناك، حتى صارت الحروف المسمارية واللغة السومرية منتشرة في بقاع الارض التي وصلوها..) الرواية ص9. اهتم الروائي علاء مشذوب في روايته، بعناية بشخصيات روايته وجعلهم يسبحون في فضاء المكان وفق منسوب مسيطر عليه، ففي الطرف الاول ( نذير وحميد وجاسب وامجد شقيق نذير ) الذين ينحدرون من ارض سومر حيث لواء المنتفك .. يقابلهم اربعة من ارض بابل ينحدرون من لواء الحلة ( تموز ومعروف وعلوان وحسناء شقيقة تموز ) هذا التوازن قصده الروائي للمحافظة على بوصلة الاحداث واتجاهاتها وجعل الاطراف متساوية في حضارتها وهمومها المعاصرة .. فأعطت الحدث عنوانا اكثر اقترابا وهو ازمة الشخوص وفق المتغيرات المعاصرة وفقدان الالق التاريخي والحضاري .. والبؤس والحرمان والفقر الذي يرزحون تحته .. فكانت المقارنة واضحة بين الامس المتألق بشمس الحضارة والجاه والقوة والعظمة وبين الحاضر المليء بالدسائس والتفرقة والحروب والفقر والعوز .. انها ساحة عراقية تجتمع فيها كل الارادات والاحلام للوصول الآمن الى مبتغى كل واحد . ان بناء الشخصية الرواية تحت ظروفها القاهرة والعصيبة، سينتج جموحا لدى كل واحد للوصول الى اهدافه التي ارادها بالفعل.. فقيام نذير بعد انتهاء اعمال التنقيب مع الاجانب بقيادة روبرت، بشراء قطعة ارض زراعية في لواء الحلة وقريبة من اثار بابل والطلب من تموز العمل بها فلاحا لكي يقترب من احلامه بالتقرب من اثار بابل ( مساحة ارضه الزراعية تقارب ثلاثين دونما في لواء الحلة، تشرف على نهر الفرات من جهتها الغربية، ويحدها من جهتها الشرقية مساحة فارغة تابعة لمدينة بابل الاثرية، ومن جنوبها وشمالها اراض زراعية، لكنه اختارها لقربها المباشر من اثار بابل، مما يتيح له القرب منها متابعة اكتشافه او زيارة اطلالها او اي شيء يدور في خلده) الرواية ص19. تأتي تلك المقاربات لاثبات عراقية الاتجاهات في نفوس الشخصيات التي مهما تحاول القيام به الا انها تبقى تنظر الى الارض على انها ارض عراقية لا غير ذلك بدليل تفكير نذير بالذهاب الى آشور بعد مغادرته بابل وخفوت الحلم الذي جاء من اجله ووجد ان كل شيء كان خرابا وما عادت هناك حضارة وامجاد وانما كانت احلاما عششت بين ثنايا راسه .. هكذا خسر نذير اندفاعه وحماسه صوب بابل التي اعتبرها مكانا يمكن اصلاحه الا انه صدم بالحقيقة ووجد ان كل ما رآه لا يمكن اصلاحه .. نذير الراعي ومن ثم المحب للآثار ومن ثم المنقب الملهوف بعشقه لكل قطعة ورقيم، ما عاد هو القادم من اعماق الجنوب ليكون منقذا وحاميا ومدافعا (انهمرت الدموع من رأسه وليس عينيه لتكون شاهدة على معموديته وهو ينزف الحزن والالم، يرى تأريخ بلاده قد اصبح اطلالا من الخرائب . اصبح مثل الرحالة او المهاجر البدوي لا يستكين في مكان حتى يبدأ جسده ينهشه ويرفض بقاءه، وكأنه لا ينتمي اليه او الى اشياءه) .

تابعنا على
تصميم وتطوير