
من مدينة التنوع الثقافي كركوك، خرجت الشاعرة والأكاديمية الدكتورة راوية جبار حسن (راوية الشاعر) لتمنح المشهد العراقي حضورًا أنثويًا متميزًا، جمع بين الفن والشعر والمسرح والإعلام والرياضة. في هذا الحوار الشامل، تتحدث الشاعرة عن طفولتها، وبداياتها الفنية، وتجربتها الأكاديمية، وعلاقتها بالمسرح والشعر، إضافة إلى آرائها حول واقع الإبداع العراقي ودور الجيل الجديد من الشعراء.
كما تهدي الزوراء في ختام اللقاء نصّين جديدين من قصائدها.
* اهلا ومرحبا بك شاعرتنا ونحن نلتقيك في حوار موسع .. بدءاً كيف تصفين طفولتكِ الأولى؟ وهل كانت هناك ملامح مبكرة على ميلكِ نحو الفن والأدب؟
ــ مرحلة الطفولة هي من المراحل الحاسمة في حياتي، فقد تشكلت لدي في جانبين مهمين: اللعب، إذ كنت لاعبة ماهرة في الفرق المدرسية، ثم حفظ القصائد وإلقاؤها في المسابقات. كان ولعي باللغة العربية كبيرًا، وكنت مهووسة بالمطالعة والقراءة، ووالدي هو المشجع الأول الذي آمن بقدرتي الأدبية والرياضية. كما أن المدرسين في تلك الفترة كانوا يدفعون نحو الاطلاع والمشاركة الذهنية العالية، وقد تتلمذت على أيدي أساتذة كبار أَدِين لهم بما أنا عليه اليوم.
* درستِ الفنون المسرحية ثم اتجهتِ إلى التدريس الجامعي والإعلام، كيف تشكل هذا المسار في شخصيتك؟
ــ المسرح هو بوابة المعرفة والخيال، ولم يكن دخولي له صدفة، فقد مثلتُ في فرقة كركوك منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري، مع كبار الفنانين في المحافظة مثل قاسم حميد فنجان ومحمد خضر ورعد مطشر. دراسة الفنون المسرحية كانت من أجمل المراحل لأنها تدرّب الذائقة والفكر والحواس وتمنحك عوالم جديدة. كل ما تعلمته في كلية الفنون الجميلة انعكس على شخصيتي الحالية، إذ درست على أيدي أساتذة كبار كـ سامي عبد الحميد وصلاح القصب وفاضل خليل وعقيل مهدي. أدرّس اليوم مادة الصوت والإلقاء في كلية الإعلام بجامعة بغداد، وأحرص على تحديث المنهج ومراعاة روح الجيل الجديد في طرائق تدريسي.
* كنتِ لاعبة في صفوف المنتخب الوطني لكرة اليد والريشة الطائرة، كيف جمعتِ بين الرياضة والفن؟
ــ اللعب كان من أجمل المراحل في حياتي، فقد نشأت في عائلة تشجع الرياضة. بدأت المشاركة منذ كنت في الثانية عشرة من عمري في بطولات المدارس، ثم مثلت فرق التربيات في المحافظات. لاحقًا مثلت منتخب العراق في لعبتي كرة اليد والريشة الطائرة لأكثر من ثماني سنوات. الرياضة علمتني الانضباط والاحترام والتنافس الشريف، بينما علّمني الفن الحس الجمالي والربط بين الفكر والفعل. الاثنان صاغا شخصيتي المتوازنة ولا تزال التجربة حاضرة في ذاكرتي وسلوكي اليومي.
* عملتِ مدرسة فنون مسرحية للأطفال المعاقين، كيف أثرت هذه التجربة فيك؟
ــ كانت تجربة إنسانية وفنية عظيمة. عملت أكثر من سنتين مع هذه الفئة وأنا طالبة ماجستير. تعلمت منهم الصبر والإصرار، وعلّمتهم كيف يعبّرون عن أنفسهم من خلال المسرح. قدمنا مسرحيات شاركوا فيها بإبداع وعفوية، وبعضهم اليوم صار مسؤولًا عن حياته. هذه التجربة زرعت في داخلي نورًا وقوة على مواجهة صعوبات الحياة.
ــ*كيف بدأتِ في التمثيل؟ وماذا تتذكرين من عملك في المسلسلات العراقية مثل “أولاد الحجي” و“حب وحرب”؟
ــ البدايات كانت في المرحلة الإعدادية حيث مثلت في فعاليات مدرسية، ثم شاركت مع مجموعة فنانين في كركوك، وقدمنا عملًا مسرحيًا بعنوان دم البرتقال في منتدى المسرح ببغداد من إخراج قاسم حميد فنجان. بعد دخولي كلية الفنون الجميلة، عملت في التلفزيون، وبدأت بدور صغير في حب وحرب ثم بدور رئيسي في أولاد الحجي و هذا هو الحب . التقيت خلالها بكبار الفنانين مثل شذى سالم وسامي قفطان وستار خضير، وكانت تجربة مهمة أثرت خبرتي الفنية ووسعت رؤيتي الإبداعية.
* ما الذي دفعكِ إلى الإخراج المسرحي؟ وهل ترين فيه امتدادًا للشعر؟
ــ خضت تجربتي الأولى في الإخراج وأنا ما زلت طالبة من خلال مسرحية (كافي بس) لفرقة القلعة في كركوك، وكان الدافع هو التحدي والرغبة في خوض مغامرة جديدة. كل شيء في الحياة هو امتداد للشعر، لأن كليهما رؤية جمالية ومحاكاة للطبيعة.
* في مسرحياتك الجامعية مثل “جحا والحمار” و“صوت الصمت”، ما الرسائل التي أردتِ إيصالها؟
ــ خلال عملي في قسم النشاطات الطلابية بجامعة بغداد، أخرجت العديد من المسرحيات التي سلّطت الضوء على معاناة الطلبة وظروفهم الصعبة. اليوم أركز على مساعدة الطلبة في تقديم محتوى هادف يواجه تحديات السوشيال ميديا والذكاء الاصطناعي. وأجد دعمًا كبيرًا من عميد الكلية الدكتور عمار طاهر وزملائي في شعبة النشاطات.
* كونكِ من كركوك، مدينة التنوع الثقافي، كيف أثّر هذا في تكوينك الأدبي؟
ــ كركوك ليست مجرد مدينة متنوعة بل هي لوحة حضارية حقيقية. هذا التنوع منحني ثراءً في الذائقة ومهّد لي فرصة التجريب في أكثر من مجال إبداعي، لأن تعدد اللغات والثقافات يفتح الآفاق أمام الخيال والجمال.
* فزتِ بعدد من الجوائز العربية في الشعر والمسرح والقصة، كيف تنظرين إليها اليوم؟
ــ أعتبر الجوائز أدوات تحفيز وليست مقياسًا للجودة. لكنها تجعل المبدع في حالة مسؤولية دائمة تجاه ما يقدمه من أعمال لاحقة.
* مَن هي راوية الشاعر بعيدًا عن التدريس والكتابة؟
ــ إنسانة بسيطة وطيبة، أحاول نقل خبرتي للآخرين. أنا أم لولدين (غزل وفهد)، وأعتز بعلاقتي العائلية الوثيقة وأصدقائي الذين أحرص على لقائهم باستمرار. أحب الحياة وأديرها بوعي وقيادة متوازنة.
* لنبدأ بالفصل الثاني من حوارنا وما يتعلق بمسارات الإبداع والمعرفة.. فبعد نيلكِ الدكتوراه في الفنون المسرحية، كيف انعكس هذا التكوين على تجربتك الشعرية؟
ــ تأثرت دراستي كثيرًا بشعري، فقد منحتني فهمًا أعمق للحياة ولحركة الكون. درست مواد مثل البنى المجاورة وعلم الجمال والتكنولوجيا ، ما طور من أسلوبي ومن رؤيتي للعالم. الفن يجعل الإنسان في حركة دائمة ويمنحه طاقة معرفية متجددة.
* ما العلاقة بين المسرح والشعر؟
ــ العلاقة وثيقة جدًا، فالشعر هو لغة المسرح الأولى. المسرح الشعري عمل معقد يتحرك بين دائرتي الدراما والشعر، والإيقاع الدرامي للنص هو ما يمنحه روحه الخفية خلف الألفاظ.
* صدرت لكِ مجموعتان شعريتان “خيول ناعمة” و“أفكار الفراشات”، كيف يمكن للقارئ تلمس التطور بينهما؟
ــ هذه مهمة النقاد، لكن يمكن القول إنني في المجموعتين تنقلت بين مواضيع الحرب والمعرفة وحبي للفيزياء، وعبّرت عن حرية أسلوبي الخاص في الكتابة. حاولت أن تكون نصوصي حيوية ومتحركة وغير نمطية.
* حصلتِ على جائزة الإبداع العربية من الألكسو عن “خيول ناعمة”، ما سرّ هذا التميّز؟
ــ ربما كانت الجرأة في الطرح والخروج عن المألوف. الجائزة كانت حافزًا كبيرًا لي، وشكّلت بداية اهتمام الاتحاد العام للأدباء والكتاب بمنجزي الشعري. لا أنسى دعم شعراء كبار مثل كريم جخيور وإبراهيم الخياط وعمر السراي الذين منحوني ثقة وبيئة ملائمة للتطور.
* هل تعرضت قصائدك للنقد الأدبي؟ وكيف تتعاملين معه؟
ــ النقد ضرورة صحية تكشف مكامن القوة والضعف. خضعت مجموعتي (خيول ناعمة) لقراءات نقدية متعددة، وأنا أتعامل مع النقد الإيجابي أو القاسي بروح متفهمة، فهدفه بناء الذائقة لا هدمها.
* بصفتكِ رئيسة نادي الشعر في اتحاد الأدباء والكتاب، كيف تصفين واقع الشعر العراقي اليوم؟
ــ الشعر العراقي بخير، وهناك تجارب مهمة تتجدد باستمرار. نعمل في الاتحاد على دعمها عبر جلسات أسبوعية ومهرجانات متنوعة تؤكد أن الشعر في العراق لا يزال في عافية وحيوية عالية.
* كيف ترين مستقبل الحركة الشعرية العراقية؟
ــ المستقبل واعد جدًا. الاتحاد يمتلك إدارة نشطة تطبع الكتب وتدعم المشاركات العربية والدولية. الجيل الجديد يملك أدواته المعرفية والإبداعية وقادر على رفد المشهد بالجمال.
* كيف يساهم الاتحاد في دعم الشعراء الشباب والمبادرات النسوية؟
ــ الاتحاد يولي اهتمامًا خاصًا بالشباب، فأسسنا نادي أدب الشباب الذي أترأسه مع نخبة من الأدباء، لاكتشاف المواهب ورعايتها. كما أطلقتُ مع الشاعر قاسم سعودي فكرة (جواهرين) التي أصبحت مهرجانًا سنويًا مهمًا برعاية الأمين العام الشاعر عمر السراي. وهناك أيضًا منتدى نازك الملائكة المعني بالأديبات العراقيات.
* كيف توفّقين بين العمل الجامعي والنشاط الثقافي؟
ــ العمل شاق لكنه ممتع. أحب عملي وأسعى دومًا لتقديم أفكار جديدة تطور المشهد الأكاديمي والإبداعي في آن واحد. أنا كائن لا يعرف السكون.
* ما رسالتكِ للجيل الجديد من المبدعين؟
ــ الموهبة وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى صقل ودراسة وصبر. على المبدع أن يطالع ويجرّب ويتجنب التقليد، وأن يكون نسخة من ذاته. النجاح لا يتحقق بالأحلام فقط، بل بخطة واضحة وعمل جاد. وفي الختام، أوجه عرفاني لكل من آمن بقدرتي ودعمني في رحلتي الإبداعية.
* لو طلبنا منك أن تهدي الزوراء بعضًا من أشعارك ماذا ستختارين ؟
ــ لدي نصوص شعرية جديدة أهديها لجريدة الزوراء ولكم .
حكمة الأقواس
لأني ببساطة أكتب عن الشوارع المظلمة
التي تشاكسها المصابيح
عن مقعد فارغ لوعدٍ باع سخونته لقميص متمرد
أكتب عن قبلةٍ يقودها خجل الأزقة
وارسم عرق الأقمار على جلد الأرصفة المرتعبة
لدي نصوص لا يحترمها الدستور
ألوّح فيها للمنابر بفستاني القصير
وأكافح كي يظل المعنى عارياً
تلفّه اللغة بشبقها المتورد
لدي نصوص سيئة...
كهذه الكتف التي تحمل جثث اللاجئين من الأمل.
شكوك مدوّرة
أفتش عنك في وطن العبرات
أشمك كما تشم السفن وحشة الأمواج
ألفّك بغدر الأيام
وأرطب شفة القصيدة بإيقاعك المليء بالشجن
أنام جوار شامتك الخجولة
وأغرز قلبي في طينك
ليتني أنمو دون حسرة الثياب
أمدك بأسفي على خيانة الرب لمواعيدنا
وأرتب لك شكوكي المدوّرة
التي تفتك باستقامة حاجتي
آه، نحن كائنات ننجو بأفعالهم الميتة
ونموت بأفعالنا التي تثير رعب النجاة.
* شكرا لك ولمشاعرك النابضة بالوهج.. شكرا لآرائكم الرائعة .