
شكّل أداء كثير من وسائل الإعلام في الغرب كما في الشرق، بما في ذلك كبريات وسائل الإعلام العالمية التي أثقلت مسامعنا طوال عقود من الزمان بشعارات رنانة حول استقلالية وسائل الإعلام وتجردها من جميع أشكال التدخل، وحول إعمال مبادئ الموضوعية والحيادية في تفاعلها مع الأحداث، منعطفاً حاسماً في مسار رسائل وأدوار الإعلام في مواجهة التطورات والوقائع. وكانت الحرب القذرة، التي لا تزال إسرائيل تشنها ضد المدنيين في غزة، المناسبة التي كشفت عن هذا المنعطف، حيث قبلت وسائل الإعلام هذه، طواعية أو إكراهًا، بأن تتحول إلى أسلحة مدمرة من الأسلحة التي استخدمها الاحتلال للفتك بأرواح المدنيين، ضمنهم الأطفال والنساء، لم يكن لهم ذنب غير أنهم من أبناء غزة .لذلك لا يمكن أن نبدي أي شكل من أشكال الاستغراب مما تقدم عليه وسائل الإعلام هذه لتبرير خنوعها ورضوخها، وامتثالها لإملاءات السادة الكبار .ولهذا حينما تسارع القناة الثانية في التلفزيون الألماني ( زد دي إف ) إلى تبرير اقتراف قوات الاحتلال لجريمة قتل إسرائيل إعلامي كان يعمل لدى مؤسسة تجمعها اتفاقية شراكة بالقناة لتغطية الأحداث في غزة، بالقول بكل بساطة إن “القتيل كان عضوا في حركة حماس”، وهي الأسطوانة المشروخة التي رددتها قوات الاحتلال لتبرير قتل أكثر من 250 صحافي فلسطيني في غزة. ولم يتوقف مسؤولو هذه القناة عند هذا الحد، بل قرروا توقيف الشراكة مع الشريك الإعلامي الفلسطيني خوفاً من غضب الاحتلال عليهم، وتودداً منهم لمّن اقترف جريمة قتل إعلامي كان بصدد القيام بمهامهم المهنية. أخالها أول مرة تحدث في العالم أن يسارع مسؤولو وسيلة إعلام إلى تبرير جريمة قتل إعلامي كان يشتغل لحساب المؤسسة.. جرت العادة في حالات مشابهة أن يتقدم مسؤولو المؤسسة الإعلامية التي يشتغل لحسابها أي شخص، تعرض إلى أي شكل من أشكال التضييق والاستهداف، الدفاع أولا عن الضحية، والتنديد بما تعرض إليه، أو على الأقل المطالبة بإجراء تحقيق نزيه ومستقل من جهة محايدة للكشف عن الحقيقية كاملة، خصوصا أن الحالة تتعلق بجريمة قتل. لكن مسؤولي القناة الألمانية اختاروا بديلا عن ذلك بإدانة الضحية بالزعم بانتمائه لحركة، وهو ما لا يمثل في حد ذاته جريمة. أو على الأقل تهمة كانت تتطلب التحقيق فيها لتأكيدها أو نفيها .ما أقدم عليه مسؤولو القناة الألمانية يمثل خرقا فظيعا لجميع مواثيق الصحافة والإعلام في العالم، وانتهاكا جسيما لجميع المواثيق والمعاهدات والقوانين الدولية، لأنهم أدانوا الضحية على أساس سردية المجرم، ولأنهم لم يوفروا الحماية للعاملين لفائدة المؤسسة التي يشرفون عليها، ولأنهم أقدموا على سابقة تزرع الخوف والرعب لدى الصحافيين والعاملين في قطاع الإعلام في العالم تحسباً من أن تقتدي بسلوكهم وسائل إعلام أخرى يشتغلون لفائدتها .وهكذا فإن الذي اقترف جريمة قتل إعلامي في غزة لم يعد الاحتلال وحده، بل صار هناك أكثر من مجرم في اقتراف هذه الجريمة، وأضحى مسؤولو هذه القناة شركاء فعليين في اقتراف جريمة القتل .هذا هو النموذج الجديد في تعامل وسائل الإعلام الغربية مع ما يقترف من جرائم في غزة.. نموذج ينقل الأداء الإعلامي من دور ناقل المعلومة والخبر وتحليلها والتعليق عليها، إلى أبعد من التعتيم والتحريف، إلى دور الشريك في اقتراف الجريمة .