رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
ندى عسكر خزّافة عراقية صاغت الذاكرة بالجمال والطين


المشاهدات 1294
تاريخ الإضافة 2025/10/26 - 9:31 PM
آخر تحديث 2025/10/28 - 11:08 PM

 من بين أيدي الطين والنار، تنبع ملامح فنانة عراقية جعلت من الفن رسالة ومن الجمال وطناً. ندى عسكر نجف الأحمد، المولودة في كركوك عام 1960، واحدة من أبرز الأسماء النسوية في المشهد التشكيلي العراقي المعاصر، مزجت بين حرارة الخزف ودفء اللون، لتمنح أعمالها هوية تتجاوز الجمال الشكلي إلى التعبير عن ذاكرة وطن ومشاعر إنسانية عميقة.
تخرّجت في كلية الفنون الجميلة – جامعة بغداد عام 1985، وتنوّعت أعمالها بين الرسم والخزف والنحت، وأسست مركزًا خاصًا للخزافين في كركوك يحمل اسمها، فضلاً عن إشرافها على النشاط الفني في تربية كركوك، وتقديمها لأجيال من المبدعين الذين حملوا شغفها نفسه.
بين معرض وآخر، وبين فكرة وأخرى، تواصل ندى عسكر حوارها مع الجمال والوجع، مؤمنة بأن الفن مرآة للتاريخ ووسيلة لصناعته في آنٍ واحد.
في هذا الحوار، تفتح ندى عسكر قلبها، لتتحدث عن تجربتها، رؤيتها، وأحلامها التي لا تزال تتوهّج بلون الخزف والنور.
* أهلا وسهلا بك ست ندى وأنت ضيفة الزوراء ونحن ضيوفك في هذا المهرجان التشكيلي الكبير .
ــ أهلا ومرحبا بكم وشكري على إجراء الحوار معي وأنا احد المشاركين في هذا المهرجان التشكيلي الكبير الذي تقيمه وزارة الثقافة .
* ما الرسالة التي تسعين إلى إيصالها من خلال أعمالك الفنية؟
ــ رسالتي هي التذكير بقيمة العراق الحضارية والإنسانية، وبأصالته التي لا تذبل رغم ما مرّ عليه من أوجاع. كثير من العراقيين لا يدركون عمق حضارة ميزوبوتاميا، تلك الأرض التي سنّت أول القوانين وأسست مفاهيم الحياة الاجتماعية. أشعر بالألم حين أرى هذا الإرث العظيم يُهمل أو يُنهب، ولهذا أستخدم الفن كأداة لبعث الوعي والحفاظ على الذاكرة الجمعية، ولأقول للعالم: نحن أبناء أول حضارة، وما زلنا قادرين على الإبداع مهما اشتدت العواصف.
* لوحاتك الأخيرة اتسمت بالعودة إلى الرموز الحضارية، هل ترين أن هذا الاتجاه سيستمر في أعمالك المقبلة؟
ــ بالتأكيد، سأواصل العمل بهذا الاتجاه، فهو يمثل مسؤوليتي الفنية والوطنية. أرى أن الفن يجب أن يكون صوتًا للمطالبة بحماية الإرث الحضاري العراقي وإعادة ما سُرق منه إلى أرضه. من المؤلم أن تزهو متاحف العالم بآثارنا بينما يعاني أبناء وطني من الحرمان. لذلك أستخدم لوحاتي كوسيلة احتجاج ناعمة، أصرخ من خلالها بصوت الطين واللون ضد الصمت.
* ما المدرسة الفنية الأقرب إلى أسلوبك في الرسم؟
ــ أميل إلى المدرسة الرمزية الواقعية، وفي بعض أعمالي تلمس ملامح سريالية. أجد في هذا المزج مساحة للتعبير عن أفكاري بحرية، فالفن بالنسبة لي ليس زخرفة سطحية، بل وسيلة لاختراق الذاكرة وإيصال الوجع والوعي إلى المتلقي. أؤمن أن الفن لغة عالمية تتجاوز الحدود، تربط الماضي بالحاضر، وتؤسس لحوار دائم بين الحضارات.
* لوحاتك تحمل أحياناً طابعاً داكناً، ما سبب اختيارك لهذا النمط من الألوان؟
ــ الألوان الداكنة ليست صدفة، بل هي انعكاس لحالة وجدانية. عندما رسمت لوحة «كلكامش»، استخدمت درجات غامقة لأعبّر عن ألم الحضارات التي انهارت، عن الخسارات التي أصابت بلاد الرافدين عبر الحروب والخراب. اللون عندي ليس زينة، بل شهادة على ما يمرّ به الوطن.
* إلى جانب الرسم، أنتِ معروفة في عالم الخزف والنحت، كيف تنظرين إلى هذه التجربة؟
ــ درست الخزف والنحت الفخاري في كلية الفنون، لأن الطين بالنسبة لي كائن حيّ أتحاور معه. أحب ملمسه وقدرته على التحول، فهو يشبه الإنسان في صلابته وهشاشته في الوقت نفسه. كما أني أؤمن بأن الرسم هو أصل كل الفنون، منه تبدأ فكرة النحت والخزف والأزياء وحتى التصميم الصناعي. أنا أيضًا أصمم الأزياء وأخيطها بنفسي، لكنني أبقي الفن هو الغاية وليس وسيلة للرزق.
* هل للخزف والنحت رسالة فكرية توازي ما تقدمه اللوحة التشكيلية؟
ــ بالتأكيد، فكل قطعة خزفية أو عمل نحتي هي نص بصري يروي قصة وطن. الخزف والنحت يحملان ذاكرة الأجداد، من خلالهما تعرفنا على أزيائهم ومعتقداتهم وأساطيرهم. لهذا أرى أن دور الفنان اليوم هو أن يكتب التاريخ من جديد عبر الفن، أن يصنع ذاكرة للحاضر ليقرأها الجيل القادم.
* كيف بدأت علاقتك الأولى مع الفن؟
ــ منذ طفولتي كنت أرسم وأتلقى تشجيعًا كبيرًا من والدتي، التي كانت فنانة بطريقتها؛ تخيط وتزخرف وتحوك الصوف بأناقة مذهلة. كنت أراقبها وأتعلم منها حب الجمال والدقة. كانت تقول لي دائمًا: «ستكونين رسامة في المستقبل»، وها أنا أواصل ذلك الحلم الذي بدأ بخيط وإبرة وصوف، ليتحوّل إلى لون وضوء وطين.
* من أين تستمدين الإلهام لأعمالك؟
ــ من الحياة نفسها، من الوجوه، من الطبيعة، من الشعر، من كل ما يحرّك الإحساس الإنساني. أحب قراءة الشعر لأنه يفتح أمامي نوافذ للخيال، وغالبًا ما أستمد من القصائد أفكاري التشكيلية. لقد استوحيت العديد من لوحاتي من قصائد الشاعر جمال الكناني، وكأن بين الشعر واللون جسراً خفياً أعبُره لأحوّل الكلمات إلى صور.
* ما الذي يميز تجربتك التشكيلية عن تجارب جيلك؟
ــ ربما إصراري على المزج بين الأنثوي والوطني، بين الحنين والتمرد. أعمالي تحمل حسًّا أنثويًا ناعمًا، لكنها في جوهرها صرخة ضد الظلم والنسيان. أبحث دائمًا عن الجمال في الأشياء البسيطة، وأحاول أن أجعل من الفن مساحة للتأمل، لا مجرد عرض بصري.
* كيف تصفين علاقتك باللون؟
ــ اللون عندي هو موسيقى اللوحة. أستخدمه لأعبّر عن مزاجي وعن حالة العمل. أحيانًا يكون اللون رقيقًا مثل همس، وأحيانًا صارخًا كأنين. هو اللغة التي أكتب بها دون كلمات.
* ما الرسالة التي تودين أن تبقى بعد كل هذا المشوار الطويل؟
ــ أن يتذكّرني الناس كامرأة من طين ونار، صاغت بيديها الجمال كما تصوغ الأم وجه طفلها بالحنان.
 أريد أن أُثبت أن المرأة العراقية قادرة على أن تكون مدرسة في الإبداع، وأن الفن العراقي لا يموت مهما تغيّر الزمن، لأنه يولد من رحم الوجع ويضيء من عمق التراب.
* هل بالإمكان أن توجزي لنا عدد المعارض والمشاركات التي قدمتها الفنانة ندى عسكر؟
ــ نعم أقمت أكثر من خمسة عشر معرضًا شخصيًا في معظم محافظات العراق، منها بغداد، كركوك، الموصل، السليمانية، أربيل، النجف، والبصرة. لم يكن حضورها مقصورًا على العراق، بل حملت أعمالي إلى العالم، حيث أقمت معرضًا في مدينة إزمير التركية عام 2001، وآخر في أنقرة عام 2015.
وشاركت في أهم الفعاليات الفنية داخل العراق، مثل مهرجان بابل الدولي، ومهرجان الوسطى، وكرنفال المرأة المبدعة، إلى جانب حضوري البارز في سمبوزيومات محلية ودولية أبرزها سمبوزيوم بغداد وكركوك، وملتقى بغداد للفن التشكيلي الدولي.
* وماذا عن التكريمات؟
ــ حصلت على قلادة الإبداع من نقابة الفنانين العراقيين ومؤسسة ميزوبوتاميا للتنمية الثقافية، ودرع العطاء الثقافي كأفضل فنانة تشكيلية عام 2015 من وزارة الثقافة، وجائزة الأوسكار الذهبي في مصر عام 2017، إلى جانب عدة جوائز أولى في معارض بوستر وطنية ومحلية.
الخلاصة
ندى عسكر... فنانة لا تصنع الخزف فحسب، بل تصوغ روح العراق في كل قطعة، وتمنح الطين صوتًا ينطق بالشعر والهوية .. لم تكن ندى عسكر فنانة محلية ، بل مثلت العراق بفخر في الصين، اليابان، تونس، الجزائر، الأردن، البحرين، ومصر، حيث تركت لمساتها في كل بلد زارته، مجسّدة ثقافة العراق بلغة الفن الخالدة.
 


تابعنا على
تصميم وتطوير