
في تاريخ الإعلام العراقي، أسماء حفرت حضورها بصوتها المميز وأدائها الملتزم، فكانت جزءًا من ذاكرة الناس اليومية، وجزءًا من تاريخ الإذاعة والتلفزيون. ومن بين هذه الأسماء، تتألق المذيعة عفاف مهد التي بدأت مشوارها من أثير إذاعة بغداد عام 1989، بعد أن اجتازت اختبارات القبول الصعبة أمام لجنة من كبار المذيعين، لتصبح لاحقًا واحدة من أبرز الأصوات النسائية التي عرفها المستمع والمشاهد العراقي.. في هذا الحوار الخاص، نستعيد معها مراحل من مسيرتها الطويلة بين المايكروفون والكاميرا، وتفاصيل من حياتها وتجربتها الإعلامية الغنية.
* أهلا وسهلا بك زميلتنا عفاف في حوار للزوراء .
ـ أهلا وسهلا بك أستاذ جمال الشرقي .
* بداية، نود أن يتعرف القارئ على البطاقة الشخصية للمذيعة عفاف مهدي.
ـ اسمي عفاف مهدي يوسف الياسري الغربان ، من مواليد مدينة الكوت عام 1960. انتقلنا إلى بغداد عام 1970، وأنا أم لولدين وثلاث حفيدات. تزوجت وأنا في الخامسة عشرة من عمري، وكنت حينها طالبة في الصف الثالث المتوسط.
أكملت دراستي المتوسطة والإعدادية ثم التحقت بمعهد إدارة الأعمال، وكنت أعمل في وزارة التعليم العالي بشهادة المتوسطة. واجهت صعوبات كبيرة في موازنة وقتي بين الدراسة والعمل والمنزل، خاصة أني كنت أمًا لطفل صغير، لكني واصلت حتى أكملت المعهد وكنت من العشرة الأوائل، فقبلت في كلية الإدارة والاقتصاد مرحلة ثانية، غير أن ظروفي العائلية والحرب في الثمانينيات حالت دون إكمال الدراسة الجامعية.
* كيف كانت بدايتك مع الإذاعة والتلفزيون؟
ـ البداية جاءت صدفة. شاهدت إعلانًا على شاشة تلفزيون العراق عام 1989 يطلب مذيعات للعمل في إذاعة بغداد. تقدمت مع أكثر من 400 متقدم ومتقدمة، وخضعت لاختبار شامل للصوت والصورة واللغة والثقافة العامة. كانت اللجنة تتكون من الأساتذة مشتاق طالب وغازي فيصل وموفق السامرائي وحافظ القباني، برئاسة الأستاذ سعد البزاز الذي كان يومها مديرًا عامًا لدائرة الإذاعة والتلفزيون. بعد تجاوز الاختبار تم قبولي في دورة تدريبية استمرت ثلاثة أشهر، كانت بمثابة الخطوة الأولى في مشواري الإعلامي.
* هل كنت تتوقعين القبول منذ البداية؟
ـ كنت واثقة إلى حد كبير من أنني سأكون من المقبولات، لأنني كنت أمتلك روح المبادرة والثقة بالنفس. في المدرسة كنت أشارك في النشاطات الثقافية والتمثيلية وألقي الخطابات، وكان يُشجعني الأساتذة على ذلك، وكانت مديرة المدرسة تختارني مراقبة للصف وتقول لي دائمًا: «أنت شخصية قوية»، وكنت فخورة بهذا الوصف.
كذلك كان لأخي الراحل الدكتور عقيل مهدي تأثير كبير في تكويني الثقافي، فقد كان قارئًا نهِمًا ومثقفًا واسع الاطلاع، وكان يصحبني إلى العروض المسرحية منذ طفولتي، فتعرفت من خلاله على الوسط الثقافي والفني مبكرًا.
* حدثينا عن أجواء الدورة التدريبية التي خضعتِ لها قبل التعيين.
ـ كانت الدورة تجربة مهمة جدًا، إذ تعلمنا فيها أصول النطق، والإلقاء، والتعامل مع المايكروفون والكاميرا. المحاضرون كانوا من كبار المذيعين واللغويين، وكان تشجيعهم لي دافعًا قويًا للاستمرار.
أذكر أن أحد الأساتذة سألني إن كنت قد درست اللغة العربية بسبب سلامة قراءتي، وكنت أفتخر بإجاباتي أمامهم. ولا أنسى الأستاذ الراحل سعاد الهرمزي الذي كان مثالًا في الدقة والإخلاص المهني.
* هل تعينتِ مباشرة بعد الدورة؟
ـ في البداية لم أُعين رسميًا، بل عملت بصفة عقد أو على أجور البرامج كمذيعة ومنفذة. لكن مع مرور الوقت وتثبيت خبرتي، تم تعييني على الملاك الدائم، رغم أن ظروفي الخاصة كانت أحيانًا تمنعني من الاستمرار، فكنت أضطر للابتعاد عن العمل لفترات ثم أعود إليه.
* ما أول قسم عملتِ فيه داخل الإذاعة؟
ـ أول قسم عملت فيه كان قسم برامج التنمية، وكان يرأسه آنذاك الأستاذ جمال الشرقي الذي أعتبره أستاذي الأول في العمل الإذاعي. تعلمت منه الكثير من أسرار المهنة، وشاركته في إعداد وتقديم برنامج البيت السعيد الذي كان من البرامج الإذاعية المعروفة آنذاك.
* كيف كان العمل داخل أقسام الإذاعة؟
ـ العمل داخل الأقسام أكسبني خبرة واسعة، فقد تنقلت بين أغلب الأقسام كمعدة ومقدمة برامج، وهذا ساعدني كثيرًا عندما دخلت قسم المذيعين. كنت أقرأ الصحف والتقارير وأشارك في التغطيات الميدانية. ك
ما تعلمت من المشرفين اللغويين والمخرجين والمحررين أساليب الإعداد والقراءة الصحيحة، وهي خبرة لا تُكتسب إلا بالممارسة الطويلة.
* متى بدأتِ قراءة الأخبار في التلفزيون؟
ـ بعد سنوات من العمل في الإذاعة، كُلفت بقراءة موجز الأخبار في قناة العراق الفضائية لأول مرة. أتذكر تلك اللحظة جيدًا، كنت أشعر أن قلبي سيتوقف من شدة الرهبة. الوقوف أمام الكاميرا تجربة مختلفة تمامًا عن الإذاعة، لكني تجاوزت الخوف بسرعة بفضل التدريب والممارسة.
* من كان أول من استمع إلى صوتك كمذيعة أخبار؟
ـ أول من سمعني وأبدى رأيه كان الأستاذ نهاد نجيب والأستاذ طيف المدرس، وقد أشادا بأدائي وشجعاني كثيرًا على الاستمرار. كان دعمهما المعنوي دافعًا قويًا لي لأثبت نفسي بين المذيعين الكبار.
* اللغة العربية كانت دائمًا تحديًا أمام المذيعين، كيف تعاملتِ مع هذا الجانب؟
ـ صحيح، اللغة العربية كانت تمثل لي في البداية عقبة حقيقية. لم أكن أتقن التشكيل بشكل كافٍ، لذلك كنت أستعين بالمرحوم حسن القرشي لمراجعة النصوص وتصحيحها لغويًا. مع الوقت، أصبحت أكثر تمكنًا، وتعلمت أن المذيع لا يجوز أن يدخل الاستوديو قبل أن يقرأ النص ويشكّله لغويًا بنفسه.
* هل تعتبرين أنكِ عشتِ الفترة الذهبية للإذاعة والتلفزيون؟
ـ نعم، بلا شك. جيلنا تعلم على أيدي كبار الإعلاميين الذين وضعوا أسس المهنة الصحيحة. كنا نعمل بانضباط واحترام للنص والكلمة. كان من المستحيل أن يُسمح بدخول الاستوديو دون مراجعة النص لغويًا وصوتيًا. تعلمنا من الرواد كيف نحترم المستمع والمشاهد، وكيف يكون المذيع واجهة مثقفة ومسؤولة.
* ما أبرز المواقف التي تتذكرينها أثناء تقديمك للأخبار؟
ـ من أكثر الأخبار التي علقت بذهني خبر تفجير راح ضحيته أطفال. كنت على وشك البكاء أثناء القراءة، لكني تماسكت لأننا تعلمنا أن نقرأ الأخبار بحيادية تامة مهما كانت مؤلمة.
* هل كان للمذيع دور في تصحيح الأخبار أو تعديلها؟
ـ نعم، كنا نعمل مع المحررين كفريق واحد. أحيانًا كنت ألاحظ أخطاء في الصياغة أو المعلومة فأقوم بتصحيحها فورًا أو أبلغ قسم التحرير. بل في بعض الأحيان كنا نحن المذيعين نحرر الأخبار بأنفسنا. هذه المرونة كانت تعكس الثقة المتبادلة بين المذيع والمحرر.
* ما أبرز الأقسام التي عملتِ فيها لاحقًا؟
ـ عملت في أقسام متعددة، منها المنوعات والبث والمراسلين في إذاعة جمهورية العراق، كما قدمت برامج سياسية وثقافية في قناة العراق الفضائية قبل عام 2003. كان عملي متنوعًا بين التقديم، وإعداد التقارير، وتغطية المهرجانات، وكنت أشارك أيضًا كمراسلة وعريفة حفل في مناسبات مختلفة.
* هل كانت لكِ مشاركات أو تجارب خارج الإذاعة والتلفزيون؟
ـ نعم، شاركت في تقديم مهرجانات وندوات ومعارض، كما كنت أعمل كمراسلة ميدانية في بعض الفعاليات. حتى قبل دخولي الوسط الإعلامي كنت قد ظهرت في تلفزيون العراق كمتسابقة في أحد برامج المسابقات، وكانت تجربة ممتعة علمتني الكثير.
* حدثينا عن أهم البرامج التي قدمتها خلال مسيرتك.
ـ قدمت العديد من البرامج الثقافية والاجتماعية والفنية، منها برامج عن الشعر الشعبي والسهرات المنوعة ولقاءات مع فنانين ومسؤولين. كذلك قدمت برنامج مشكلتي الذي تناول قصصًا واقعية من المحاكم حول أسباب الطلاق، واستضفت فيه باحثات اجتماعيات ومحامين.
كما قدمت برامج لقراءة الصحف والمواجيز ونشرات الأخبار، إضافة إلى تغطيات مباشرة على الهواء دون نص مكتوب، كانت تعتمد على ثقافة المذيع وسرعة بديهته.
* بعد هذه المسيرة الطويلة، كيف تنظرين إلى خبرتك في العمل الإعلامي؟
ـ أشعر أن خبرتي اليوم ثمرة سنوات طويلة من الجهد والمثابرة. الإعلام مدرسة تعلم الإنسان الانضباط والثقافة والقدرة على التواصل مع الناس.
تعلمت من إذاعة بغداد معنى الالتزام، ومن التلفزيون معنى الحضور، وأعتز بأنني كنت جزءًا من جيل أسس للإعلام المهني في العراق.
* كلمة أخيرة تختمين بها هذا الحوار.
ـ أقول للأجيال الجديدة من المذيعين: إن الصوت الجميل لا يكفي، ولا الشهرة تصنع مذيعًا. المذيع الحقيقي هو الذي يمتلك ثقافة واسعة، ولغة سليمة، وأمانة مهنية، ويحترم الجمهور. الإعلام رسالة ومسؤولية قبل أن يكون مهنة أو ظهورًا على الشاشة.